تعتبر انتفاضة العمال من أكثر الأمور خطورة على الأنظمة فهم عصب الاقتصاد، وأداة الدولة في التنمية، وإن غضبوا أو تمردوا توقفت تلك النظرية المسماة “عجلة الإنتاج”، وتوقف معها تدفق الدم في شرايين الاقتصاد
وتعتبر الدولة مسؤولة امام المواطن ومطالبة بان توفر له التعليم والتدريب ، وتمكنه من حقوقه، وتمارس عليه في المقابل الدور المنوط بها في الرقابة، وفي غياب كل هذا اعتاد العامل العربي أسلوب عمل لا يمكن من خلاله تحقيق أي انجاز، وبات العامل وصاحب العمل، ومن فوقهم الدولة، يعيشون سلسة الترهل المترابطة، كأنها باتت مسلمات راسخة، وكأن جدية العمل باتت عيبا بحد ذاته
وهذا ما افرز احتقانا داخل الأوساط التي تندد بالمطالب التي تراها مشروعة ترجمت على شكل مظاهرات تبلورت في تطورٍ نوعي لافت في أداء الحركات الاحتجاجية يقودها أشخاصٌ رفضوا الخضوع للظلم والاستغلال، لمجرد كونهم الفئة الأضعف. هؤلاء هم من شكلوا نقابات للدفاع عن حقوقهم وحقوق جميع العمال حول العالم. وعلى امتداد سنوات طويلة، ملأوا الطرقات بالشعارات بهدف إيصال أصواتهم، والأهم مطالبهم وحقوقهم، إلى جميع المعنيين. وبعد معاناة طويلة، نجحوا في تحصيل حقوق كثيرة وتوريثها إلى العالم
وهذه الحركات، هي مجموعات ليس فقط للتعبير عن تطلعاتها المشروعة نحو دولةٍ يحكمها الحق والقانون، بل أيضاً لطرح رؤيتها لعلاقة الدولة بالمجتمع، باعتبارها مشكلةً مركبةً يشتبك فيها السياسي والاجتماعي والثقافي والحقوقي، وتجد تمظهرها الأبرز في التجاوزات المتواترة، وغير المقبولة، لسلطةٍ ما زالت تصر على تجاهل ما تنص عليه
ونظرا للدور الأساسي الذي تقوم به المنظمات المهنية للمشغلين والمنظمات النقابية للأجراء طيلة مراحل الحوار، ونظرا لكونها أطرافا فاعلة في تطوير الاقتصاد الوطني بشكل عام، فقد كان من الواجب ايلائها الأهمية التي تليق بها و لاسيما من خلال المفاوضة الجماعية باعتبارها حقا من الحقوق الأساسية و ذلك في سياق منظم و منتظم وإلزامي يكتسي طابعا مؤسساتيا وعلى كافة المستويات يساهم في آثار ايجابية على العلاقات الاجتماعية داخل المقاولة و في عالم الشغل ولذلك جاءت مدونة الشغل بمجموعة من المستجدات الخاصة بها يمكننا تلخيصها فيما يلي:
إشراك مندوبي الأجراء في مسطرة تأديب و تسريح الأجراء.
إشراك مندوبي الأجراء في الاجراءات المتعلقة بالتخفيض من مدة الشغل في حالة أزمة عابرة للمقاولة.
إدراج مقتضيات تتعلق بالمفاوضة الجماعية طبقا لاتفاقية العمل الدولية رقم 98 المتعلقة بحق التنظيم و المفاوضة الجماعية.
إمكانية تلقي الاتحادات و الجامعات النقابية المهنية إعانات مالية من الدولة لتغطية كل أو جزء من مصاريف كراء مقراتها و أجور الأطر العاملة لديها، و مصاريف الأنشطة المتعلقة .
تهدف النقابات المهنية بالإضافة إلى ما تنص عليه مقتضيات الفصل الثالث من الدستور إلى الدفاع عن المصالح الاقتصادية والاجتماعية والمعنوية والمهنية الفردية منها و الجماعية للفئات التي تؤطرها و إلى دراسة و تنمية هذه المصالح و تطوير المستوى الثقافي للمنخرطين بها. كما تساهم في التحضير للسياسة الوطنية في الميدانين الاقتصادي والاجتماعي و تستشار في جميع الخلافات و القضايا التي لها ارتباط بمجال تخصصها .
وقد عرف موضوع الوظائف المنوطة بالنقابة المهنية تغييرا كبيرا راجع إلى ظروف تاريخية و سياسة لعمل النقابات، و للتطور الذي عرفه التشريع حولها في مواكبة للتطورات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية في المغرب بصفة عامة
تتمتع النقابات المهنية بالأهلية المدنية و بالحق في التقاضي و يمكن لها أن تمارس ضمن الشروط و الإجراءات المنصوص عليها قانونا جميع الحقوق التي يتمتع بها المطالب بالحق المدني لدى المحاكم في كل ما له علاقة بالأعمال التي تلحق ضررا مباشرا أو غير مباشر بالمصالح الفردية أو الجماعية للأشخاص الذين تعمل على تأطيرهم، أو بالمصلحة الجماعية للمهنة أو الحرفة التي تتولى تمثيلها .
إن العمل النقابي سواء داخل المغرب أو خارجه تحكمه مجموعة من المفاهيم و المبادئ العامة التي يتعامل معها المشرع بشكل نسبي من بلد لآخر. و المشرع المغربي بدوره تدرج موقفه منها بحسب التطور الحاصل في الواقع السياسي و الاقتصادي العام، و أولاها اهتماما لحساسيتها في العلاقة بين العامل و السلطة الحاكمة، و العامل و المشغل، و العامل و النظام الاقتصادي.
أول جانب من مفهوم الحرية النقابية هو أن للشخص الحرية في أن ينخرط أو لا ينخرط في منظمة نقابية، و يقتضي هذا المفهوم حماية العمال النقابيين وغير النقابيين، و يمنع أي تمييز بين العمال بسبب انتمائهم أو نشاطهم النقابي.
إن هذا المبدأ مرتبط بمحاولة نشر ثقافة الحوارعلى كافة الأصعدة خصوصا في الميدان الاجتماعي، و ذلك لتأهيل المقاولة قصد مواجهة تحديات العولمة و شراسة المنافسة داخل الأسواق. وهو شيء لا يتحقق إلا بوعي كل طرف الأجير والمشغل بحقوقه والتزاماته.
لأنه في ظل الحديث عن المقاولة المواطنة، و الشراكة و الحكامة و ما إلى ذلك من المفاهيم، تفرض ثقافة الحوار نفسها، و يصبح من الضروري التعامل مع ممثلي الأجراء بأسلوب حضاري لحفظ السلم الاجتماعي. و لعل أول خطوة في هذا السياق هي الحوار الاجتماعي الذي تكلل بخروج مدونة الشغل للوجود.
يمكننا اعتبار هذه النقطة بالضبط من أكبر الإنجازات التي تحققت إن لم تكن أهمها على الإطلاق
استهلها الحوار الذي يجري بين ممثلي المنظمات النقابية الأجراء الأكثر تمثيلا أو الاتحاديات النقابية للأجراء ، و بين مشغل أو عدة مشغلين أو ممثلي المنظمات المهنية للمشغلين من جهة أخرى بهدف تحديد و تحسين ظروف الشغل و التشغيل وتنظيم العلاقات بين المشغلين و الأجراءوتنظيم العلاقات بين المشغلين أو منظماتهم من جهة، و بين منظمة أو عدة منظمات نقابية للأجراء الأكثر تمثيلا من جهة أخرى .
وتعد النقابات المهنية مكسبا حقيقيا للحركة الاجتماعية المغربية غير أن اجرأة هذه المقتضيات و غيرها لن يصل المستوى المطلوب إلا بعد إنشاء محاكم خاصة بمنازعات الشغل على غرار المحاكم الإدارية و التجارية والى جانب مقتضيات المدونة ماتزال الشغيلة المغربية و الوسط القانوني كله يتطلع إلى إصدار القانون المنظم لحق الإضراب و الوارد في الفصل 14 من الدستور وكذا إعادة النظر في الفصل 288 من القانون الجنائي الذي يمكن تأويله في غير صالح النضال العمالي.
غير أن الإطار القانوني لا يعد العقبة الوحيدة أمام الهيئات النقابية المغربية، بل هي ترزأ تحت عبء مشاكلها الذاتية فإضافة إلى الاختلال الحاصل على مستوى مرجعيتها المتأثرة بالفكر الاشتراكي ، تعاني من ظاهرة العزوف عن العمل النقابي اسوة بالعزوف عن العمل السياسي ككل إلا أن معضلتها الحقيقية تتمثل في ارتباط العمل النقابي بالعمل السياسي ، وهي مسالة لها جذورها التاريخية منذ عهد الاستعمار، فما إن يحدث خلاف داخل الحزب حتى تنتقل عدواه إلى النقابة، فيؤثر على سيرها لتنشق في الأخير بانشقاقه وهذا ما يفسر ظاهرة البلقنة النقابية الحاصلة في بلدنا .حيث وصل عدد المركزيات النقابية ما يفوق العشرين فما ضرورة هذا الشتات في مجال تشكل وحدة الجهود مصدر قوته الأساسية .
فعلى الرغم من أهمية الإصلاحات الدستورية التي عرفها المغرب، قبل حوالي ستة أعوام، على خلفية الحراك الشعبي العربي، والتي قادت قطاعاً من الإسلام السياسي المعتدل إلى رئاسة الحكومة، في محيط إقليمي يغلب عليه الاضطراب وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، على الرغم من ذلك، لم تمسّ هذه الإصلاحات النواة الصلبة والعميقة للسلطة التي ظلت في معزلٍ عن أي تغيير جوهري، يؤثر على صلاحياتها الواسعة، بسبب ثقافتها السياسية التقليدية، وطبيعة تحالفاتها الاجتماعية، واستنادها إلى مشروعيةٍ سياسيةٍ تقليدية، لا تستوعب الحداثة السياسية، إلا باعتبارها مورداً يرسخ التقليد
وجاءت مقتضيات الدستور الجديد، بشأن ربط المسؤولية بالمحاسبة، واعتماد مبادئ الحكامة الجيدة. وتمثل هذه الحركات، بأفقها السياسي والاجتماعي السلمي، تحدّياً دالاً بالنسبة للفاعلين التقليديين داخل الحقل السياسي، بسبب تجاوزها أنماط الاحتجاج المعروفة، وإسهامها في نقل مركز الثقل في الفعل الاحتجاجي من المدن والمراكز الحضرية الكبرى، ذات الرمزية السياسية والنقابية التاريخية، إلى ما يعرف بـ”المغرب غير النافع” المتطلع إلى رفع الحيف الاجتماعي والاقتصادي عنه، وأخذ حقه في الكرامة والعدالة الاجتماعية.
وتأتي الدعوة إلى إنجاح الحوار الاجتماعي، بعد فشل الحكومة والنقابات ورجال الأعمال في الوصول إلى اتفاق وإخفاقها في مسايرة المتغيرات المجتمعية والثقافية الحاصلة، مؤشرا كذلك على قدرة الحركات الاحتجاجية على التمدّد الهادئ داخل النسيج الاجتماعي والأهلي، وتحولها إلى حركةٍ مدنيةٍ مغربيةٍ واسعة، متعدّدة ومتنوعة المشارب والروافد، وقادرة على ابتداع أساليب تنظيمية مغايرة تنبني على السلمية، ونبذ العنف
وبعد فشل الحكومة، في إقناع المركزيات النقابية بضرورة مواصلة التفاوض حول العرض الحكومي
حيث طالب مختلف الفرقاء نقابة الاتحاد المغربي للشغل، التي تعتبر أكبر مركزية نقابية في المملكة، مقاطعة جلسات الحوار الاجتماعي ، وانسحاب كل من الاتحاد العام للشغالين بالمغرب والكونفدرالية الديمقراطية للشغل من اللقاء الذي جمع الحكومة مع النقابات المركزية الأربع.
وفشلت بذلك الحكومة في إنجاح الحوار المتعثر والتغاضي عن “استحضار المصلحة العليا، والتحلي بروح المسؤولية والتوافق، قصد بلورة ميثاق اجتماعي متوازن ومستدام، بما يضمن تنافسية المقاولة، ويدعم القدرة الشرائية للطبقة الشغيلة بالقطاعين العام والخاص
وترفض النقابات العرض الحكومي المتمثل في الزيادة في أجور فئة من الموظفين العموميين بـ400 درهم موزعة على ثلاث سنوات، في مقابل مطالبتها بالزيادة 600 درهم معممة على جميع السلالم في الوظيفة العمومية، والزيادة في أجور القطاع الخاص ومراجعة الحد الأدنى للأجور، والتخفيض الضريبي عن الأجور.
وحملت الكونفدرالية الديمقراطية للشغل الحكومة مسؤولية فشل الحوارالاجتماعي، وأكدت على انها ستواصل النضال لمواجهة التوجهات والخيارات الحكومية اللا شعبية التي تروم تبخيس العمل النقابي، والإجهاز على الحقوق والمكتسبات العمالية
وتبدي الحكومة استعدادها لإنجاح الحوار الاجتماعي بشكل جدي مع الشركاء الاجتماعيين والاقتصاديين إلى إمكانية مدارسة المقترحات النقابية وأن العرض الحكومي ليس جامدا وأنه مرن ومنفتح على تطورات التفاوض
وأحدثت لجنة تقنية بين الحكومة والنقابات، من أجل التدقيق في المقترحات للوصول إلى عرض شامل لجميع الموظفين ومستخدمي القطاع الخاص لتجاوز الخلافات الحادة بين الباطرونا والنقابات حول العديد من النقط خاصة القانونية والتشريعية، ويعتبر الحوار السياسي بين مختلف الفرقاء هو الكفيل بإنهاء أزمة الحوار الاجتماعي الذي تتحكم في مخرجاته الظروف الاقتصادية و الاجتماعية الصعبة التي يمر منها المغرب.
ان المطالبة بتحسين الدخل أو الزيادة في الأجور في المغرب، جاء دائما في ظروف سياسية ضاغطة، حيث تضطر الحكومة إلى البحث عن التوافق مع الاتحادات العمالية من أجل تحقيق السلم الاجتماعي.
ويعمل في الوظائف الحكومية حوالي 570 ألف موظف، بينما يشتغل في القطاع الخاص أكثر من 3 ملايين شخص، إذا ما اخذ بعين الاعتبار العدد المصرح بهم لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي .
غير أن الاجور ليست الهاجس الوحيد الذي يشغل الاتحادات العمالية في الحوار الاجتماعي، حيث تسعى هذه الأخيرة إلى التزام الحكومة بالحريات النقابية، وإقناعها بتجميد مناقشة مشروع قانون الإضراب في البرلمان.
فاطمة سهلي