شراكة استثنائية
بقلم: عزيز لعويسي
كما كان منتظرا، جدد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في خطاب ألقاه أمام البرلمان بغرفتيه، موقف فرنسا الداعم لسيادة المغرب على صحرائه، وهو الموقف الذي عكسته الاتفاقيات الثنائية الموقعة أمام أنظار جلالة الملك محمد السادس والرئيس الفرنسي، والتي أسست لعلاقة استثنائية بكل المقاييس بين الرباط وباريس، قياسا لعددها (22 اتفاقية)، واعتبارا لمجالات التعاون المشمولة بها، والتي تنوعت بين الصناعة والفلاحة والتجارة والطاقة والنقل السككي والبحري والجوي، والبنيات التحتية والأشغال الكبرى والموانئ، والثقافة والتربية والتعليم العالي والأمن والرياضة وغيرها من المجالات، ما يضعنا في صلب شراكة استراتيجية، بقدر ما تتجاوز عقبات وتعثرات الماضي، بقدر ما تتجه نحو المستقبل، وفق خارطة طريق جديدة، قوامها الثقة والمصداقية والمسؤولية واحترام السيادة، وعمودها التعاون المشترك وفق قاعدة رابح رابح، بعيدا عن عقلية “المعلم” و”التلميذ”، التي لم يعد لها موضع قدم، في مغرب لم يعد كمغرب الأمس، ولا مكان لها في عقل استراتيجي لملك، جعل من ملف الصحراء ” نظارة المغرب على العالم”؛
الوفد الرفيع الذي رافق الرئيس الفرنسي ماكرون إلى المملكة، وما حظي به من استقبال شعبي لافت للنظر، هو علامة دالة على تقدير وتثمين المغرب للموقف الفرنسي، الداعم للأسانيد القانونية والتاريخية ذات الصلة بمغربيــة الصحراء، ورسالة واضحة المعالم، مفادها أن فرنسا استوفت كافة أوراقها القديمة والجديدة، بخصوص قضية الوحدة الترابية للمملكة، واستوعبت جيدا أن أساليب المناورة والابتزاز لم تعد تجدي أو تنفع، في مغرب استراتيجي، لم يضع بيضه الدبلوماسي كاملا في سلة واحدة، بعدما نوع الشراكات ووسع نطاق الصداقات، ونجح في ضوء ذلك، في كسب صداقة الجميع ونيل احترام الجميع، ويكفي قولا أنه شريك موثوق به للولايات المتحدة الأمريكيـة والاتحاد الأوروبي، وعدد من القوى الفاعلة في المجال العالمي كإنجلترا و اليابان وروسيا والصين والهند…، وشقيق لكافة الدول العربية ما عدا الدول الجانحة نحو العدوان، وصديق يعول عليه، بالنسبة لعدد من الأشقاء والأصدقاء الأفارقة، وهذا التبصر الدبلوماسي لم يمنح المغرب فقط، الاحترام والتقدير في محيطه الإقليمي والدولي، بل وعبد أمامه طريق النهوض الاقتصادي والإقلاع التنموي، وأكسبه المناعة اللازمة، ما جعله يقف الند للند أمام دول أوربية وازنة، لم تجد من خيار، سوى طرح أسلحة الابتزاز والتحكم، لتختار، تحت الضغط الدبلوماسي المغربي الناعم، الدخول إلى بيت الطاعة المغربي، كما هو الحال بالنسبة، لفرنسا آخر الملتحقين بالركب المغربي بعد الجارة إسبانيا وغيرها؛
الشراكة الاستثنائية بين الرباط وباريس، هي فتح دبلوماسي مبين للمغرب، وفي ذات الآن، هي ضربة موجعة تحت الحزام للنظام العدائي بالجزائر، الذي طالما تأبط بفرنسا ماكرون، لإشباع غريزته العدائية للمغرب ووحدته الترابية، لكن وبما أن الحق يعلو ولا يعلى عليه، لم تجد فرنسا من خيار، سوى التنكر لهذا النظام المأسوف عليه، الذي وصل إلى حالة مرضية مستعصية بسبب المغرب، إلى درجة أن كل خطاب أو خرجة للرئيس الجزائري، إلا وترددت فيها عبارات باتت مثارا للتهكم والسخرية، من قبيل “المروك” و”الصحراء الغربية” و”الجمهورية الصحراوية” و” تصفية الاستعمار” و”تقرير المصير”، وغير ذلك من التعبيرات المشحونة بمشاعر الكراهية والحقد والحسد والضغينة، كما حدث مؤخرا أثناء زيارة الرجل لمصر، حيث لم يتجرأ على فتح ملف الصحراء، واكتفى بكلمات مرتبكة لم يكن لها “لا أصل لها ولا مفصل”، وما يؤسـف له، أن هذا العداء الخالد، لم يبق أسير النظام الحاكم، بل بات عقيدة مجتمعية، يؤمن بها الجميع ويرافع عنها الجميع، إلا العقلاء والحكماء؛
الاستقبال الكبير الذي حظي به ماكرون وحرمه والوفد الرفيع المرافق له، من طرف جلالة الملك محمد السادس، عكس في شكله، تاريخ مملكة مغربية ضاربة في القدم، لما برزت فيه من طقوس وتقاليد عريقة، وعكس من حيث المضمون، براعة ملك متبصر، سجل له التاريخ، أنه نقل المغرب إلى مصاف الدول الرائدة عربيا وإفريقيا، وحوله إلى دولة آمنة ومستقرة، تحظى باحترام وتقدير المنتظم الدولي، ونجح في النهوض بواقع التنمية بالمغرب، وجعل من ملف الصحراء “نظارة المغرب على العالم”، وهي النظارة التي أسقطت الكثير من القلاع المنيعة، التي ظلت منذ عقود، منبعا للابتزاز والمساومة والتحكم والاستعلاء ؛
موقف الديك الفرنسي، هو ثمرة دبلوماسية يقظة ومتبصرة، يقودها عاهل البلاد حفظه الله، ونتاج عمل رصين لعدد من رجالات الدولة المخلصين لله والوطن والملك، الذين يشتغلون في الظل، ليبقى الوطن ويحيى الوطن، في وقت نجد فيه بعضا من أبناء جلدتنا، أجسادهم هنا داخل الوطن وقلوبهم وعقولهم هناك خارجه، يغردون ليس فقط خارج السرب، بل ويساهمون في الإساءة للوطن باندفاعهم وسوء تقديرهم وتبصرهـم، ويمنحون بذلك، أعداء الوطن، فرصا للتمادي في عدائهم وقلة حيائهم، فيكفي توجيه البوصلة نحو المسيرات التي نظمت في عدد من المدن، تضامنا مع فلسطين، حيث رفعت فيها كل الأعلام والصور والرموز، إلا علم الوطن ورموز الوطن، ولم تتوقف الحكاية عند هذا الحد، بل ورفعت فيها شعارات مسيئة للدولة، وماسة بتوجهاتها واختياراتها الاستراتيجية، باسم مناهضة “التطبيع”، الذي تحول اليوم، إلى موجة بات يتقاسمها “الوصولون” و”الانتهازيون” و”الأنانيون” و”العبثيون” و”العدميون” و”الباحثون عن المصالح السياسوية الضيقة، والمنقبون عن الفتن ما ظهر منها وما بطن، على أمل أن يدرك هؤلاء المكشوفين منهم والمخفيين، أن ” حب الأوطان من الإيمان”، وأن أية إساءة بقصد أو بدونه، للدولة والمؤسسات والثوابت، هي اصطفاف معلن في خندق أعداء الوطن، ووقــوف صريح ضد الوطن، على أمل أن تصل الرسالة، إلى من لازالت تجري في عروقه قطرة دم، يحركها حب الوطن؛
بالعودة إلى الشراكة الاستثنائية الموقعة بين الرباط وباريس، فهي في المجمل، مكسب دبلوماسي كبير، عاكس لدبلوماسية مغربيــة رصينة، له أبعادا اقتصادية وتنموية وجيواستراتيجية، سواء فيما يتعلق بمستقبل النزاع المفتعل حول الصحراء المغربيـة، بالنظر إلى الوضع الاعتباري لفرنسا، كعضو دائم العضوية بمجلس الأمن الدولي، وقياسا لماضيها الاستعماري بالمنطقة، ما يجعلها على اطلاع وثيق بحقائق الأمور، أو فيما يخص ما يتطلع إليه البلدان، من مكاسب اقتصادية وجيوسياسية، في محيط إقليمي ودولي، يقتضي تعزيز آليات التعاون والشراكة، وخدمة قضايا التنمية والأمن والسلم والاستقــرار، وإذا كان المغرب على أعلى مستوى، يعيش حالة يقظة مستدامة، صونا للوحدة الترابية للمملكة، وتحريكا لعجلة البناء والنماء، فإن هذه الدينامية المتعددة الزوايا، تقتضي تمتين اللحمة الوطنية والانخراط الفردي والجماعي في دعم المسيرة التنموية والاقتصادية والإشعاعية التي يقودها عاهل البـــلاد، والتحلي بما يلزم من الفطنة واليقظة، ما يساعد على التصدي لمختلف مؤامرات ومناورات خصوم وأعداء الوطن، في الخارج كما في الداخل؛
وهي مناسبة للتذكير أن المرحلة، تقتضي تحييد كل المخاطر التي تتهدد الوطن وتمنعه من فرص النهوض والازهار والإشعاع، بالتصدي الحازم للفاسدين والعابثين والأنانيين والوصوليين والعدميين، ودعاة الفتن ما ظهر منها وما بطن، وتفعيل آليات المسؤولية والمساءلة والمحاسبة وعدم الإفلات من العقاب، وتعزيز دولة الحق والقانون والمساواة والكرامة والعدالة الاجتماعية، وبهذا النهج، يمكن أن نحمي بيضة الوطن، ونصون ما ننعم به من أمن واستقرار وطمأنينة، وقبل هذا وذاك، نرتقي في مدارج التنمية الشاملة.