المجتمع المدني والديقراطية التشاركية
المجتمع المدني مفهوم غربي النشأة، أسهمت في صياغته مدارس فكرية وايديولوجية متعددة، في إطار الحضارة الغربية، وذلك عبر عدة مراحل تاريخية بدءا بأرسطو طاليس الذي استخدمه كمرادف للدولة وحتى انطونيو غرامشي الذي طور هذا المفهوم باعتباره بناء فوقيا يؤدي دورا توجيهيا للسلطة.
ويعكس المجتمع المدني في معناه الواسع فضاء للحرية يلتقي فيه الناس بإرادتهم الحرة ويأخذون المبادرات من أجل أهداف أو مصالح أو تعبيرا عن مشاعر مشتركة، وهو ما يجعله غنيا في تداعياته بالنسبة إلى عمليتي الديمقراطية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وللمجتمع المدني أربعة اركان تعبر عن وجوده وتشكله:
-الركن التنظيمي: يضم المجتمع المدني مجموعة من التنظيمات التي يشكلها الافراد وفقا لنظام معين يتم الاتفاق حوله، كالجمعيات والنقابات والمنتديات الاجتماعية والثقافية والفكرية والسياسية.
-الطوعية: أي المشاركة الارادية، وهو ما يميز المجتمع المدني عن باقي التكوينات الاجتماعية التقليدية.
-الاستقلالية: أي الاستقلالية المالية والادارية.
-الركن القيمي: حيث تلتزم تنظيمات المجتمع المدني بمجموعة من القيم والمعايير في إدارة العلاقات فيما بينها وفيما بينها وبين الدولة، كقيم التسامح، التعاون، اختلاف الرأي.
شهدت تسعينات القرن الماضي تصاعدا ملحوظا في الاهتمام العربي والافريقي بموضوع المجتمع المدني، وقد أسهمت عدة متغيرات في تزايد هذا الاهتمام، فمن ناحية مع انهيار الشيوعية، وزحف موجات الديمقراطية والمطالبة بمشاركة المواطن في دول شرق اروبا والدول النامية؛ وقد كانت تقوية المجتمع المدني أحد معالم التحول الديمقراطي، ومن ناحية اخرى فإن التحول الاقتصادي نحو نظام السوق والاخذ بسياسات إعادة الهيكلة الاقتصادية أدى كذلك إلى تصعيد أدوار المجتمع المدني في عدة دول.
كما طرح الخطاب السياسي العالمي ممثلا في وثائق الامم المتحدة ومؤتمراتها المتتالية لقيمة المجتمع المدني وشراكته في تحقيق غايات التنمية البشرية، وصاحبت هذا الخطاب تعديلات تشريعية وقوانين جديدة تنظم المجتمع المدني في العديد من البلدان العربية والافريقية منها المغرب.
بفعل التطورات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يعرفها العالم بشكل عام منذ قيام الثورة المعلوماتية الأخيرة التي اجتاحت العالم وغيرت المنظومات المجتمعية التقليدية، غيرت معها السياسات والاقتصادات والعلاقات وحتى أنماط التفكير، كما عرف هذا العالم المتنامي، بمشاكله المعقدة وبإرثه المجتمعي الثقيل، ثورة مجتمعية متنامية تتمثل في ظهور مجتمع مدني جديد وفاعل وضاغط على الساحة الوطنية والدولية.
ولاشك أن هذا المجتمع المدني نشأ في بيئات عربية مختلفة ولكن بقواسم سياسية ومجتمعية مشتركة، ومنها ظهوره وتناميه في دول فاشلة سياسيا ترعاها أنظمة استبدادية، بمؤسسات هشة تنهشها المحسوبية والفساد واستغلال النفوذ؛ وباقتصاديات منهكة وغير مهيكلة لا تقوى على تدبير الثروات الوطنية وترشيدها، ثم مجتمعات ينتشر فيها الفقر والأمية والفوارق الاجتماعية، البطالة.
هذا الواقع الصعب من جهة، ظهور مؤسسات مدنية مستقلة وفاعلة، بحيث ضيقت الأنظمة الاستبدادية الخناق على المبادرات الفردية والجماعية خوفا من ثورات اجتماعية شعبية ضدها.
بل استطاعت تطويع مجموعة كبيرة منها لصالحها، وأصبحت خاضعة وداعمة لمشروع الاستبداد عوض مشروع الديمقراطية؛ لكن من جهة اخرى تمكنت قطاعات واسعة من الافراد والجماعات من الاستفادة من ثورة المعلومة والمعرفة ووسائط التكنولوجيا الحديثة واستثمارها لصالحها، ثم استطاعت عن طريقها الاستفادة من الطرق الجديدة للعمل المدني الفعال و المبدع مستفيدة من الشبكات الترابطية الحديثة ومن تجارب المنظمات المدنية العالمية.
لقد اتسعت رقعة المساهمين المكونين للمجتمع المدني لتشمل كل الأفراد والمجموعات والمؤسسات المدنية التي تنشط في العمل المجتمعي المستقل عن الأحزاب السياسية و أجهزة الدولة والحكومة، ومنها جمعيات الأحياء والتعاونيات والنوادي الأدبية والفاعلون العموميون والمنظمات الدينية والخيرية، المهنيون والتجار والحرفيون والنقابات المهنية و الصحفيون المستقلون.
وتأتي أهمية الفاعل المدني هنا، في المشاركة الفعالة في بناء الديمقراطية المدنية على الشراكة المتعددة والواسعة لمكونات المجتمع والتي تقطع مع النموذج البيروقراطي الأتي من أعلى إلى أسفل والذي لا يعترف بالمبادرات الفردية ولا بإشراك المواطن في تسيير شؤون البلاد.
إن المجتمع المدني الفاعل والمؤثر، هو رأس المال الاجتماعي القوي الذي يرافق رأس المال السياسي والاقتصادي في بناء دول قوية مبنية على النظام الديمقراطي الذي تتعدد فيه السلط دون تطويع سلطة لصالح الاخرى.
لقد برزت الديمقراطية التشاركية، ليس للإلغاء الديمقراطية التمثيلية، ولكن لتتجاوز قصورها وعجزها على التفاعل والتجاوب مع معطيات اجتماعية جديدة، التي تتمثل في ظهور حركات وتعبيرات اجتماعية تعرف اتساعا متزايدا (حركات نسائية،وبيئية، وحقوقية،وتنموية…). كل هذه التكتلات لا تجد في الديمقراطية التمثيلية قنوات للتعبير عن حاجاتها ومطالبها وإيجاد حلول، ولا منفذا لموقع القرار السياسي لتداولها. في حين تعتبر الديمقراطية التشاركية ديمقراطية فاعلة، لحل المشاكل عن قرب، وضمان انخراط الجميع، وتطوير التدبير المحلي والوطني.
ومن المؤكد أن المغرب يعرف تحولات اجتماعية واقتصادية عميقة ساهمت في الضغط من أجل إصلاحات سياسة حقيقية، وهو ما تبين ابان الحراك السياسي لسنة 2011 والذي تمخض عنه دستور جديد، ما يعني أن المغرب يمر من مرحلة استثنائية بفعل التحولات الاقتصادية التي يعرفها والتي تجعله قطبا اقتصاديا قويا في شمال افريقيا (المخطط الصناعي 2015، والمخطط الأخضر، مشاريع الطاقات المتجددة، إنشاء مناطق التبادل الحر…)، ثم التحولات الاجتماعية التي نتجت عن طبيعة الاختيارات الاقتصادية المتبعة من قبل مراكز القرار والتدبير بالمغرب.
هذه التحولات المتزايدة والمستمرة تجعلنا نتحدث عن ظهور فاعل قوي، كان لعهد قريب يتعرض لكافة الاستقطابات السياسية والضغوطات الامنية والسياسية، وهو الفاعل المدني أو منظمات المجتمع المدني.
حيث مكنت حقا الوثيقة الدستورية لسنة 2011 المواطن من المشاركة في صناعة القرار العمومي عبر مجموعة من الاليات والميكانيزمات، في سياق عالمي تراجعت فيه الديمقراطية التمثيلية لصالح الديمقراطية التشاركية. وذلك على نحو يعزز الثقة والتعاون بين الدولة ومختلف مؤسساتها من جهة، والمواطنات والمواطنين من جهة ثانية. ومع تزايد النداءات الرامية إلى ضرورة فتح مجال أوسع أمام مكونات المجتمع المدني، خصوصا السكان والجمعيات التي تمثلهم للمشاركة في صياغة القرار العمومي.
وأخيرا يمكن القول، إن دراسة واقع المجتمع المدني وأوليات مؤسساته، وتحليل الاطار ا اقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي يحكم هذه المؤسسات، ورصد علاقتها بالنظام السياسي،كل ذلك لا بد من أن يساهم في تحديد مقومات انطلاق العمل المدني، العمل ترسيخ وتطوير ثقافة الديمقراطية، وتنمية الحوار والتعاون في المجتمع المدني، فضلا عن البحث عن أنشطة وفعاليات جديدة تستطيع مؤسسات المجتمع المدني من خلالها أن يتسع نفوذها وتكون مؤثرة سياسيا.
وفي ضوء ذلك، فإن المطلوب من مؤسسات المجتمع المدني العمل على تطوير اليات الحركة والاتجاه نحو تخليق صيغة جديدة توفر المشاركة في صنع السياسات العمومية، فضلا عن القدرة على النقد الذاتي لتجاوز تلك المعوقات التي تحد من انطلاق المجتمع المدني، وهناك حاجة لتفعيل الوسائل الاعلامية والقضائية، وإقامة علاقة دائمة مع الاجهزة الحكومية؛ ليس فقط في القضايا الفئوية أو القضايا المصيرية التي تعنى بمفهوم فئة معينة إنما ايضا في المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي يعرفها المجتمع.
وقد أصبحت منظمات المجتمع المدني متدخلا رئيسيا في مختلف مظاهر الحياة العامة على المستوى الترابي، واكتسبت هذا الدور نتيجة مجموعة من المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ كما نصت مختلف التوصيات المتضمنة في التقارير الصادرة سواء عن البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي، على ضرورة اشراك فاعلين اخرين في حل اشكالية التنمية والنمو ، مما يفهم معه أن اشراك الساكنة قد أصبح مهما في مجال تدبير القضايا الانية و المستقبلية على الصعيد الترابي.