المهرجانات : مردود اقتصادي ومزايا اجتماعية
أصبحت المهرجانات في الدول الغنية في كل من أمريكا وأوربا وشرق أسيا، ولاسيما المهرجانات الموسيقية التي تستقطب الجمهور الواسع، عبارة عن مؤسسات مهيكلة تعمل أداراتها على مدار السنة؛ كما تحولت إلى مقاولات ثقافية مدرة للأرباح المحترمة، وولج مجال الاستثمار فيها رجال الأعمال المحترفون، وأصبحت طرق تنظيمها وأساليب تدبيرها تدرس في كليات الاقتصاد والمعاهد المتخصصة في التسيير وتدبير المقاولات، وناقش الباحثون الأكاديميون رسائل دكتوراه متعددة حول نماذج التدبير المالي (business model) لمجموعة من المهرجانات؛ بل لقد دخلت بعض الشركات المتعددة الجنسيات ـ لاسيما الأمريكية منها ـ للاستثمار في كبريات المهرجانات الموسيقية المنتشرة عبر العالم نظرا لكثرة الإقبال عليها وحجم الأرباح التي تدرها وتوفر شبكات الفنانين والأطر المتخصصة المتمرسة في تدبيرها عبر العالم، حتى شبه بعض الكتاب النجاح التجاري للمهرجانات ببعض المنافسات العالمية الكبرى لكرة القدم. وقصد إعطاء الأمثلة البارزة على هذا النجاح نذكر (مهرجان كان السينمائي) ومهرجانات الجاز وموسيقى الشباب المنوعات المنتشرة عبر العالم التي يتتبع كل واحد منها، كل سنة، مئات الآلاف من الجماهير، كما تدر أرباحا بالملايير على منظميها.
ولكن إذا كان واقع المهرجانات اليوم يعطي هذه الصورة المشرقة ويشجع على الاستثمار في الفن والترفيه في الدول الغنية؛ فإن أكبر وأرسخ المهرجانات المحترمة حول العالم قد بدأت بدايات مغامرة وجريئة، ولم تكن لها في البداية أهداف مادية بالأساس؛ فالكثير منها كانت ترمي إلى تحقيق أهداف النهوض بالمجتمع وتحقيق رفاهية الإنسان وسعادته بواسطة الثقافة إلى جانب الرفع من المستوى الاقتصادي والاجتماعي للساكنة؛ ونذكر على سبيل المثال، لا الحصر، (مهرجان أفينيون المسرحي) في فرنسا الذي يعد اليوم واحدا من أكبر وأهم المهرجانات الثقافية المتخصصة في العالم. لقد نشأ ذلك المهرجان بعد نهاية الحرب العالمية الثانية التي تسببت في كثير من الدمار والمآسي وكلفت شعوب العالم الكثير من الخسارة في الأرواح وتدمير العمران وكساد الاقتصاد ونشر الفقر والمرض وكثرة العاهات الجسدية والنفسية. لقد كانت أفينيون في أواسط القرن العشرين مدينة صغيرة تتوسط منطقة فلاحية فقيرة يعيش أهلها حياة بسيطة ومتقشفة؛ وكان أهم ما تملكه المدينة هو ماضيها العريق ومعالمها التاريخية المعروفة، إلى جانب قربها من المدن الشاطئية ذات الاستقطاب السياحي على شاطئ الكوت دازور مثل مرسيليا ونيس وكان وسان طروبيه… لقد انطلق مهرجان أفينيون في صيف سنة 1947 على يد فرقة مسرحية باريسية قوية برآسة المخرج جان فيلار وعضوية نجوم مثل جيرار فيليب… وسرعان ما احتضنته الوزارة الوصية ومجلس الجهة، واعتبرته تظاهرة هامة تحقق من جهة أولى سياسة اللامركزية التي نهجتها فرنسا في الميدان الثقافي بعد الحرب؛ كما اعتبرته، من جهة أخرى، نشاطا سنويا يستعمل الثقافة كأداة للتعريف بالمنطقة كلها في الداخل والخارج، ويساعد المدينة على الخروج من عزلتها، كما يساعد الساكنة على التطور في الميادين الاجتماعية والاقتصادية. ولم يكن أحد يعلم آنذاك أن (مهرجان أفينيون) سوف يصبح أكبر وأشهر المهرجانات العالمية في ميدان الفن المسرحي وفنون الفرجة، سواء بعدد العروض التي تقدم فيه أو بتنوع التجارب والأساليب الفنية التي تحضر للمشاركة والانفتاح على الجمهور العالمي الواسع.
وقد كانت للمغرب وما تزال تجارب جيدة وناجحة في تنظيم المواسم والمهرجانات، سواء الكبيرة منها أو الصغيرة، وسواء التقليدية منها أو الحديثة، وسواء الثقافية الهادفة منها أو الترفيهية. وحتى زمن قريب كانت المواسم الدينية منتشرة في كل ربوع المملكة، بحيث كان لكل قبيلة أو مدينة أو رقعة جغرافية، صغيرة أو كبيرة، ضريح لأحد الصلحاء تقام له سنويا احتفالات دينية ومدنية وفرجات شعبية تستقطب جمهورا واسعا، وتقام على هامشها أسواق لترويج مختلف أنواع المنتوجات الفلاحية أو الصناعية التقليدية، بحسب طبيعة المنطقة ونوعية نشاطها الاقتصادي… وما تزال مجموعة من هذه المواسم تنظم بشكل كبير ومنتظم حتى اليوم؛ لعل أكثرها شهرة موسم الشموع في سلا، وموسم المولى إدريس الأكبر في زرهون، وموسم مولاي عبد الله أمغار قرب مدينة الجديدة، وموسم المولى إدريس في فاس…
ولكن للمغرب أيضا باع طويل في تنظيم المهرجانات العصرية التي اشتهر بعضها في الداخل والخارج، نذكر من أعرقها وأشهرها مهرجان الفولكلور (الفنون الشعبية) في مراكش، وهو المهرجان الذي كان واجهة للتعريف بالتنوع الثقافي الشعبي في المغرب، كما كان أحد أهم أدوات الاستقطاب السياحي للمدينة الحمراء وللمغرب عامة. وقد تعزز هذا المهرجان بمهرجانات جديدة أخرى لا تقل عنه فخامة وخدمة لسياحة المدينة ولصورة المغرب في العالم مثل (مهرجان السينما العالمي)، و(مهرجان الضحك) و(مهرجان القفطان)…
ومن أشهر المهرجانات المغربية أيضا نذكر (موسم أصيلة الصيفي) الذي احتفل في صيف سنة 2018 بالذكرى الأربعين لانطلاقته الأولى، والذي استطاع خلال هذه العقود الأربعة أن يحول مدينة صغيرة للصيادين إلى إحدى أشهر مدن السياحة الثقافية العربية، وأن يستقطب خلال دوراته الماضية أكبر الأسماء المشهورة في الفكر والشعر والموسيقى والفنون التشكيلية والتصوير الفوتوغرافي والصحافة في المغرب والعالم…
ولا بد أن نذكر أيضا وعلى الخصوص (مهرجان موازين) الذي أطلق على نفسه مند تأسيسه سنة 2001 لقب (إيقاعات العالم)، نظرا لأنواع الموسيقى المغربية والعربية والعالمية التي يمكن التفرج عليها فوق منصاته المنتشرة عبر مختلف أحياء مدينتي الرباط وسلا، والذي تمكن من استقطاب أشهر أسماء نجوم الموسيقى والغناء عبر العالم؛
ثم لا بد أن نذكر (مهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة) الذي نظمت أولى دوراته سنة 1994، وكانت الفلسفة التي انطلق منها تتمثل في إعطاء الكلمة لثقافة الانفتاح والحوار بين الثقافات بواسطة الموسيقى وغناء الشعوب. وقد اكتسبت مدينة فاس بسبب هذا المهرجان شهرة عالمية واسعة كمدينة للصداقة والتعايش بين الديانات السماوية الثلاث، باعتبارها امتدادا لروح التعايش الذي ميز الحضارة الأندلسية، كما حظيت الجمعية التي تنظمه بتنويه من (منظمة الأمم المتحدة) باعتبارها أحد (رسل السلام في العالم) وتقاطر عليه الجمهور والدعم من مختلف بقاع الأرض. ورغم ميل الدورات الأخيرة من هذا المهرجان أكثر نحو التنشيط والتسلية فإن المضمون الإنساني وفلسفة السلام التي يحملها قادرة على البروز من جديد عن طريق العودة إلى عمق النظرة الروحية والبرمجة العالمية المحكمة.
غير أن المهرجانات لا تحتاج كلها بالضرورة إلى إمكانيات مالية ضخمة، وموارد بشرية كثيرة، وإلى تجهيزات واستعدادات وترتيبات كبيرة ومكلفة؛ بل هناك العديد من المهرجانات التي لا تكلف سوى ميزانيات صغيرة، ولا تتطلب سوى منظمين متوفرين على الحس الثقافي الحقيقي وروح العمل الجماعي السليم، ومع ذلك توفر مردودية اجتماعية ومنافع اقتصادية لا يستهان بها.
ويمكن أن نذكر من أهم أصنافها :
أولا ، المهرجانات المتخصصة ذات الجمهور النوعي، مثل مهرجانات الموسيقى الأندلسية، والسماع والمديح، وطرب الملحون، والثقافة الصوفية، والثقافة الأمازيغية، والعيطة، والطرب الحساني، وما شاكلها من المهرجانات التي تثمن التنوع الغني للتعبيرات الفنية المغربية الأصيلة، تضاف إليها المهرجانات المتخصصة في الفنون العصرية مثل الشعر والقصة والسينما والمسرح والتشكيل والفوتوغرافيا… وغالبا ما تقوم بتصور وإنجاز هذه المهرجانات جمعيات المجتمع المدني التي تشتغل في هذه القطاعات، وتدعمها القطاعات الحكومية والهيئات المنتخبة وبعض الخواص من الفاعلين الاقتصاديين…
ثانيا، المهرجانات الإقليمية المتنوعة التي تتخذ كشعار لها أحد المنتجات الفلاحية أو غير الفلاحية التي تشتهر بها المنطقة التي تحتضنها، مقل موسم حب الملوك (الكرز)، ومواسم التفاح، والتمور، والورود، والزعفران وغيرها من المهرجانات الإقليمية والجهوية… وهي مواسم تنظمها في الغالب الجمعيات المهنية بتعاون مع القطاعات الحكومية المعنية مثل السياحة والفلاحة والثقافة، وتدعمها في ذلك السلطات المحلية والهيئات المنتخبة.
وإذا كانت هذه المهرجانات بشتى أنواعها تشكل واجهات حقيقية للتعريف بنشاطات المدن والأقاليم التي تنظمها؛ فإنها أيضا تظاهرات ثقافية وسياحية تنشط الاقتصاد المحلي وتقوي الاستهلاك وتوفر مداخيل متنوعة للساكنة، لاسيما في مجالات التجارة والسكن والتغذية والنقل… إلى جانب توفير فرص الشغل في عدة قطاعات للخدمات، سواء منها الفني والثقافي، أو التتقني والتنظيمي، أو في الصحافة والدعاية والإعلام، أو في مجالات النظافة والصيانة والحراسة والأمن والطباعة والنشر…
كما أنها تساهم في خلق المقاولات الجديدة واكتشاف المواهب الشابة وتعويد شباب الفنانين والتقنيين والمنظمين على تحمل المسؤولية والعمل الجماعي والتعامل مع الجمهور الواسع… فهي بهذا بمثابة ورشات عملية وتداريب ميدانية للتكوين المهني والإدماج في مجالات متعددة.
ونحن لا نملك في المغرب دراسات علمية حقيقية ودقيقة في هذا الميدان، لتستقصي عدد المهرجانات المنظمة في بلادنا، وتكشف مقدار مردوديتها، وكيفي تتحقق تلك المردودية في مختلف المجالات الاجتماعية والثقافية والتربوية والسياحية والاقتصادية، وكذا مقدار وكيفية خدمتها للمدن والأقاليم التي تنظم فيها؛ غير أن في الإمكان ـ لتوضيح الصورة ـ الاستعانة بدراسات أجريت في فرنسا يقدر أصحابها أن كل أورو واحد يستثمر في المهرجانات يعود على الجماعة، بشكل مباشر أو غير مباشر، بمدخول يتراوح بين 8 و10 أورو؛ وهذه نتيجة من شأنها أن تدفع العاملين في القطاع إلى التشجيع والاستثمار وبدل المزيد من المجهودات والضبط ، مع تشجيع العاملين في القطاع لضمان تلك المردودية.
ولا نعتقد أن مهرجاناتنا توفر مثل هذه المردودية الاقتصادية المرتفعة، نظرا للتعثر في تنظيم الكثير منها، وعدم توفر صفة الاحتراف بين العديد من منظميها، وكذا عدم الحرص على توفير هذا الهدف الاقتصادي وإعطاء الأولوية عوضه للأهداف الاجتماعية والثقافية والترفيهية… ولكن الرفع من المنفعة المتحققة من المهرجانات ممكنة إذا توفرت الشروط الموضوعية الكافية.
رشيد بناني