علاقة الثقافة بالإقتصاد والتنمية
الأستاذ السعيد بن عمرو العمراني
باحث مكون – مستشار في العلاقات الدولية والثقافية.
يطلق العلماء على الأنشطة الثقافية اسم القوة الناعمة، وتنعت الدول التي حققت نجاحا كبيرا في مجال الأنشطة الثقافية بأنها دول حضارية متقدمة ، بل الحضارة نفسها تعرف بأنها مجموعة الأنشطة الثقافية التي تنتشر في مجتمع ما وتشكل وتبلور هويته، ونذكر على سبيل المثال أن الحضارة الغربية اكتسبت سيادتها من مجموعة الأنماط الثقافية التي تمارسها.
ولذلك إذا أردنا أن نحلل مجتمعا من المجتمعات لا نبحث أولا عن آلة الحرب أو آلة الاقتصاد أو آلة السياسة، وإنما نبحث أولا عن آلة الفكر والتنوير والثقافة، ونسأل عن النظريات التي قدمها المنظرون في هذا المجتمع لعلاج أمراض البشرية، ما الفنون التي برع فيها الفنانون المثقفون؟ كم عدد المتاحف التي حفظت التراث الإنساني؟ وكم عدد الأكاديميات التي تحتضن المواهب لتسهم في الحفاظ على استمرارية حضارة الإنسان؟ وكم عدد المكتبات العامة التي حفظت نتاج العقول عبر العقود والقرون؟ كم عدد الأوبرا التي تمارس فيها أشكال وألوان الفنون الإنسانية الراقية؟ من علماء ورموز الفكر والفن الذين غيروا وطوروا الحياة إلى الأفضل؟
I – الثقافة والإقتصاد:
يكمن الفرق بين الثقافة والاقتصاد، في أن تطوير العملية الاقتصادية، مرهون باللحظة الآنية التي يعيشها الاقتصاد وبحسب الزمن الذي يحيا فيه، ويتنفس بحسب حال السوق المتقبلة ويتطلع نحو أرباح مادية مستعجلة بينما تطوير الثقافة وتنمية المجتمع ثقافيا، يحتاج إلى استمرارية وتواصل، تبدأ من التغلغل في عمق هذا المجتمع والعودة إلى بداياته للتماس مع أسسه ومن ثم إعادة إحيائها وترميم ما تحاول رياح الزمن أن تذروه وتمحوه.
ولا شك أن الخطأ الذي يمكن ارتكابه بسهولة في عملية التنمية الثقافية يكمن في التخلي عن هذه الأسس ومحاولة اقتلاعها، أو حتى تغطيتها بذريعة ضرورة إحلال الثقافة القديمة بثقافة جديدة، تحتاج إلى عملية إزاحة للأولى كي تعثر لنفسها على مكان لا تزاحمها فيه بقايا هذا الماضي وآثاره العتيقة غير المرغوب فيها، وهو ما يشتت الجهود ويحول الثقافة إلى فعل مؤقت، يحيا مع الزمن ويتقولب بحسب العصر، وهذا لا يمكن أن ينجح في تحقيق الاستقرار ومن ثم التنمية المجتمعية كما يجب، بل يتحول إلى فقاعة واهية تعدم فيها الثقافة معناها التنموي الحقيقي.
ويمكن للاقتصاد اتباع الموضة فينجح ويحقق المطلوب منه بينما لو اتبعت الثقافة الموضة فهذا يعني إصابتها في مقتل، خصوصا وأنها لا تبدل بحسب الأجواء ولا تتشكل بناء على الأرباح المادية وهي ليست فعلا استهلاكيا، بقدر ما هي حاجة روحية عميقة تتطلب نموا مستقرا ومستمرا كي تغدو ثقافة مجتمع قادر على تنميته وتطوره.
II الثقافة الاقتصادية
ونعني بالثقافة الاقتصادية ، أن يكون الفرد والمجتمع مثقفا اقتصاديا، ويكاد يجمع العلماء المعنيون، على أن الاقتصاد يشكل حجر الزاوية في تطور الدول والمجتمعات، ويؤكد هؤلاء معادلة تقول، كلما كان الاقتصاد قويا متينا متوازنا، قائما على العلمية والحرفية، كلما كانت الدولة والمجتمع أقوى وأكثر تطورا، بمعنى أن هناك ترابط وثيق بين قوة الاقتصاد وتطور المجتمع ، لهذا لا يمكن أن نجد اقتصادا متينا مبنيا على أسس علمية في دولة متأخرة، لسبب بسيط أن هذا النوع من البناء السليم مرتبط بصورة جوهرية بمفهوم الثقافة الاقتصادية، وبمدى توفر المواطن على الثقافة الاقتصادية، فإذا كان الفرد والمجتمع يتحلى بثقافة اقتصادية، حتى لو بالحد الادنى منها، فهذا يجعل فرص التطور الاقتصادي مضاعفا لتلك الدولة، على العكس تماما من المجتمعات غير المثقفة اقتصاديا، فهي تكان لا تعثر على فرصة للتطور الاقتصادي، بسبب ضآلة الثقافة الاقتصادية فيها على مستوى الافراد أو الجماعات.
أما فيما لو بحثنا بكيفية مساهمة ثقافة المواطن الاقتصادية في تطوير الدولة والمجتمع، فإن ذلك يتعلق بتفكير المواطن وسلوكه اقتصاديا، وعندما ينتشر هذا الاسلوب من العيش بين افراد ومكونات المجتمع كافة، ويتعلم هؤلاء طرق الاستهلاك الصحيحة، حتى في التفاصيل اليومية الصغيرة، فإن هذه الثقافة الفردية والجماعية، سوف تعود على الدولة والمجتمع، بمردودات اقتصادية كبيرة نتيجة للتراكم في صحة التفكير والسلوك، ولاشك أن الثقافة الاقتصادية ستشمل الكوادر المهمة والنخب التي تقود المجتمع، لأن ثقافة المواطن الاقتصادية سوف تصنع شعبا مثقفا اقتصاديا، ولهذا فإن القيادي الذي سيظهر في مثل هذا الشعب لابد أن يكون ذا رؤية وخبرة اقتصادية جيدة، لأنه ينتمي لشعب مثقف اقتصاديا، وهكذا تكون الفائدة أعم وأشمل، فلا تتعلق بالفرد وحياته فقط، بل تمتد لتشمل المجتمع والدولة بأكملها.
من هنا تبرز قيمة المواطن المثقف اقتصاديا بوصفه اللبنة الصغرى للبناء، ومن ثم تبرز قيمة المجتمع المثقف اقتصاديا، ففي مثل هذه الحاضنة المثقفة، لابد أن ينشأ قادة اقتصاديون متميزون، سياسيون، أو مخططون، أو عاملون في القطاع الاقتصادي الخاص، كونهم يترعرعون في وسط واع في كيفية الموازنة بين الاستهلاك والانتاج، وهذا سينعكس ذلك حتما على ثقافة الساسة وقادة النخب كونهم جزءا من المجتمع، لهذا نلاحظ أن الدولة التي تتميز بمواطن ذي حصيلة ثقافية اقتصادية، لاشك أنها ستبنى اقتصادها على ركائز سليمة، والسبب أن الشخص الذي يعيش في مثل هذه المجتمعات، ستكون لديه رؤية اقتصادية يقوم عليها تعامله وسلوكه ومنهج حياته بصورة عامة، حتى في ادارة الشؤون العائلية، سيكون السلوك الاقتصادي الجيد هو السائد، وهذا أمر وإن بدا فردا أو عائليا، لكنه سوف ينعكس على السلوك الاقتصادي المجتمعي عموما، بسبب العلاقات المتداخلة بين العائلات والتأثير المتبادل فيما بينها، ومن ثم اكتساب الخبرات السلوكية الاقتصادية بصورة تبادلية، عند ذاك سنكون أمام مجتمع واع بمفهوم الاقتصاد وما يتعلق به، فضلا عن انعكاساته الايجابية العديدة، كون هذا النوع من المجتمعات غالبا ما يكون عارفا للنتائج الإيجابية للسلوك الاقتصادي السليم وانعكاسه على طريقة ومستوى رفاهية العائلة والمجتمع عموما، علما أن الثقافة الاقتصادية ينبغي أن تكون شاملة، لآن الجميع يحتاجها، بما في ذلك المثقفون أنفسهم، فلا يصح للمثقف مثلا أن يحصر نفسه في حيز محدد من الأفكار التي تتعلق بالآداب والفنون كونه ينتمي إلى هذا الوسط، لذلك لابد أن يكون عارفا وفاهما ومتفاعلا مع المعلومات الاقتصادية التي تكمل ثقافته الفكرية والادبية وقراءاته الفنية والمسرحة وما شابه، فالمثقف في هذا الحالة يصبح موسوعيا، وتكون لديه خبرة في إدارة شؤونه الفردية والعائلية بطريقة اقتصادية ناجحة، وينطبق هذا الامر على السياسي أيضا، فكونه ذا اختصاص في العمل السياسي لا ينبغي له أن يقتصر فهمه ومعلوماته على الامور السياسية فقط، فالقائد السياسي الجيد ينبغي أن يكون مثقفا في الاقتصاد، حتى يستطيع من خلال هذا الفهم والاطلاع، ان يسهم برؤيته لتحسين الجوانب العملية التي تخضع لصنع القرار الاقتصادي، خاصة أنه يسهم بطريقة فعالة في صناعة القرارات الاقتصادية المهمة للبلد، وهذه الثقافة التي يجب أن يحملها القائد السياسي، لا يمكن أن تتحقق في مجتمعات غير مثقفة اقتصاديا.
والدليل على صحة هذا الرأي، أن هناك دولا متأخرة في الاقتصاد، يحكمها ويقودها أشخاص يجهلون ماذا يعني الاقتصاد، وهم لا يفقهون دوره في بناء الدولة القوية المتطورة، لسبب واضح، أن هؤلاء القادة هم أصلا نتاج مجتمع يجهل أهمية الاقتصاد، ودوره الأساس في بناء الدولة المستقلة المستقرة في الوقت نفسه، لذلك عندما يكون السياسي والمثقف والمفكر والعامل والكاسب وعموم الناس مثقفين اقتصاديا، فإن المجتمع برمته سيحمل هذه الصفة المهمة التي تساعد على بناء مجتمع يفقه ماهية الاقتصاد، ويعرف ما هي أهمية الثقافة في هذا المجال، وسوف يتمكن افراد هذا المجتمع من التعامل بدراية وفهم مع جميع الامور المرتبطة بالقضايا الاقتصادية، ولاشك أن هذا النوع من المواطنين أفضل بكثير من أولئك الذين لا يفرقون بين الاستهلاك والانتاج، ولا يعرفون كيف يديرون شؤونهم الفردية والعائلية، فكيف إذا تعلق الامر بإدارة دولة ومجتمع بأكمله؟، من هنا تسهم الثقافة الاقتصادية في بناء دولة متطورة اقتصاديا، وهو ما سينعكس آليا، على تطور الدولة في الميادين كافة.
III نماذج التنمية الاقتصادية
جرّب العالم منذ نشوء النظرية الاقتصادية التقليدية نماذج نمو متعددة أفضت إلى نتائج متباينة على سلم التنمية قبل أن نصل اليوم إلى التنمية المبنية على البيئة واستدامة الموارد، أي نموذج التنمية المستدامة، إلا أن هذا النموذج لا يزال يقتات من الأدبيات التقليدية للنمو وهي نفسها الأدبيات التي تشكلت منها المدرستان الليبرالية ثم الماركسية، ويتعلق الأمر بنظرية المراحل لروستوف التي تعني أن الدول المتأخرة في معدلات النمو مجبرة على أتباع نفس مراحل التصنيع الرأسمالي للحصول على قدر مناسب من النمو، ونظرية التخطيط الاشتراكي التي تعني أن الدولة مجبرة على امتلاك وسائل الإنتاج لإطلاق قطاع عام يحقق عدالة توزيع المداخيل، ونظرية رودان التي تعني أن الدول مجبرة على تكثيف الاستثمار للحصول على قدر مناسب من النمو المبني على التراكم الرأسمالي في قطاعات محددة أو ما يعرف بـ (النمو غير المتوازن) أو في جميع قطاعات الاقتصاد أي ما يعرف بـ ( النمو المتوازن)، وهناك نظريات أخرى تعنى بنفس الموضوع مثل نظرية الدفعة الخارجية التي تعني أن الدولة المتأخرة في النمو تحتاج لرأسمال خارجي إما في شكل ديون أو تبعية ثم نظرية بيرو التي تعني أن التطور الاقتصادي يتحقق عبر مراكز محددة للنمو حتى سميت بنظرية (مراكز النمو) … نظريات متعددة خضعت للتجربة تشترك في أمر واحد هو خلوّها من أي اعتبار للثقافة أو القيم.
تجديد النظم الاقتصادية
ولكن مع تجربة النظريات المذكورة، بدا جليا النقص النظري في تصميم نماذج النمو، ما فتح الباب أمام جدل علمي حول دور الثقافة والقيم الوطنية في تسريع النمو أو تباطئه خاصة بعد صدور نتائج الأبحاث التي تناولت دور الثقافة في تقدم الدول ومنها الدراسة العلمية المرموقة (الثقافة مهمة) للباحث جيفري ساكس العام 2000 والتي أثبتت الدور الوظيفي للثقافات في تشكيل الرؤى الاقتصادية الأكثر نجاعة، ومن ذلك أيضا كتاب ( الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية) لعالم الاجتماع ماكس فيبر الذي أثبت دور المذاهب الدينية في تقسيم الدول بين سرعة النمو وتراجعه.
الرؤية الجديدة للتنمية على أساس العامل الثقافي قد يساهم مستقبلا في تجديد النظم الاقتصادية على نحو مغاير لما عهدته البشرية خلال الأربعة قرون الأخيرة، وربما سينتقل العالم خلال القرن القادم من التنمية المبنية على الموارد المادية والمالية إلى التنمية المبنية على الموارد غير المادية، تماما مثل ما حدث في تجارب النمو الأخيرة في دول آسيوية ومنها كل من كوريا الجنوبية والصين واليابان وسنغافورة وماليزيا وأندونيسيا وحاليا كل من الفيتنام وتايلاندا.
رؤية مالك بن نبي
وموازاة مع أعمال كل من ماكس فيبر وجيفري ساكس، تختزن الثقافة العربية الاسلامية نماذج حية عن دور الثقافة في تشكيل النظم الاقتصادية ومنها حضارة الأندلس وازدهار بغداد وتقدم الحواضر الإسلامية غرب إفريقيا مما أثرى فكرة مالك بن نبي حول شروط النهضة، فالنهضة التي تعني التنمية الشاملة في المصطلح المعاصر تقودها معادلات إيجابية تتكون من ( الفكرة والشخص والشيء) أو من ( الإنسان والتراب والوقت) إذ تنمو الفكرة في وسط ثقافي ملائم لقيم المجتمع كما يتطور الانسان بشكل ايجابي في محتوى ثقافي محدد. وبالتالي هناك ثقافات إيجابية تسرع في النمو في حين تميل شعوب للكسل في إطار ثقافات متكاسلة أو مثبطة للنمو مما يساهم في صناعة التخلف.
IV بين الثقافة والاقتصاد
ومما لا شك فيه أن المجتمعات تملك ارتباطا كبيرا بين العامل الاقتصادي والمجتمع ففي حال استقرار الاقتصاد يؤدي ذلك إلى الثراء في الحياة الاجتماعية والعكس صحيح فالأمم التي تتمتع باقتصاد جيد ومستقر تكون قادرة على الإنتاج وبناء ثقافة اجتماعية جيدة قادرة على التأثير بما حولها وتجعل الإنسان أكثر عطاء، وتقلل من الآثار السلبية للظواهر الاجتماعية كالجريمة والإرهاب والسرقة والفساد المالي.
ومن أهم الظواهر الاقتصادية التي تواجه المجتمعات هي ظاهرة الفقر والبطالة والتضخم وغيرها من الظواهر التي تؤرق المجتمعات في شتى أنحاء العالم وبالتالي فإن للثقافة الاقتصادية دور هام في تحريك عجلة التنمية فعندما يكون الفرد والمجتمع مثقفا اقتصاديا يتمكن المواطن من التعامل مع التطورات السريعة والكبيرة في عالم الاقتصاد في جميع الأنشطة ويصبح قادرا على الاستثمار والادخار والدخول في أسواق رأس المال والمضاربة بالأسهم والسندات والتعامل معها بأقل الخسائر، والأهم من ذلك أن الثقافة الاقتصادية تحول الرغبة الاستهلاكية إلى الرغبة الإنسانية عند المواطن من خلال ادخار جزء من دخله لاستثماره في مجالات تحقق له تطورات في مستوى المعيشة.
وعند النظر إلى تدني مستوى الثقافة الاقتصادية لدى الفرد والمجتمع فمعالجة ذلك تبدأ من المواطن ذاته بالقراءة والاطلاع الذاتي على المنشورات الاقتصادية والبرامج الإعلامية الخاصة بذلك مع مراعاة القراءة والإطلاع لأهل الاختصاص. ومما لا يمكن تجاهله بأن الثقافة الاقتصادية ستساهم في تحقيق رؤية 2030 مما لها من دور هام في توعية الفرد نحو التطورات الواسعة في عالم الإقتصاد والأعمال لكي يتمكن من التعامل مع هذه التطورات ويساهم فيها وصولا إلى تنمية المجتمع بأكمله وتحقيق تقدمه الاقتصادي، لأنه لا يمكن لأي نموذج للنمو الاقتصادي أن ينمو من دون أن تكون هناك ثقافة اقتصادية لدى أفراد المجتمع للتعامل مع هذه النماذج التنموية.