شاعر يحمل سيفا … !
قرأنا لكم في جريدة الاهرام الصادرة بتاريخ 14 أبريل 1997 بقلم رجاء النقاش
هناك حكمة يونانية قديمة تقول : ” إن أكبر عجائب الحياة على كثرتها هي الإنسان”، وهي حكمة صحيحة، ولو فكرنا بصورة دقيقة في أمور الإنسان وأحواله المختلفة، فسوف نجد أنفسنا أمام كثير من التناقضات والأسئلة الحائرة، ومن أعجب هذه التناقضات ولاشك أن بعض الذين يقبلون على الدنيا في عشق لها ولهفة عليها وظمأ شديد لما فيها من متعة ولذة، هم أنفسهم الذين قد يتحولون في لحظة واحدة إلى أبطال يحملون السلاح ويخوضون المعارك، وينتقلون من قمة الانحلال إلى قمة الاستعداد للتضحية بأنفسهم دون خوف أو تردد.
وهذه الظاهرة في حياة بعض النماذج الانسانية تضعنا أمام سؤال حائر، فكيف يلتقي حب اللذة والمتعة مع البطولة والإيمان المطلق بقضية عادلة؟. إن هذه الظاهرة ولاشك هي إحدى عجائب الطبيعة الإنسانية التي لا يمكننا أن نكتشف أسرارها بسهولة.
على أننا بشيء من البحث والدراسة قد نصل إلى نقطة التقاء بين الشهوة الجارفة الاندفاع إلى المجد والبطولة والتضحية بالنفس. وهذه النقطة على الأغلب هي أن الشخصيات الإنسانية التي تحمل هذه الميول المتعارضة، هي في الأساس شخصيات ممتلئة بالعاطفة القوية والإحساس الحاد بالحياة، وأصحابها لا يتحملون أن يعيشوا على هامش الدنيا، وهم لا يرتاحون أبدا على شواطئ البحار. إنهم يحبون أن يكونوا في قلب الدوامة، ويعشقون السباحة في المياه العميقة، وشعار هذه الشخصيات هو أن الحياة بدون خطر، وبدون إحساس حاد عنيف، لا معنى لها ولا قيمة. وكل واحد من هؤلاء يقول لنفسه: أنا في خطر … فأنا موجود. فالذي يسقط في الخمر حتى يصل إلى قمة النشوة أو قمة الجنون، لا يجد صعوبة في أن يقاتل بسيفه لكي يصل إلى نفس الدرجة من الغليان في مشاعره وعواطفه، فهو في حالة السكر إنسان “يغلي” ولا “يجري” على الأرض، وهو في حالة القتال والحرب يصل – وفي يده السيف – إلى نشوة كبرى وإحساس بالخطر لاحد للمتعة فيهما عند أمثال هذه الشخصيات العجيبة النادرة.
ومثل هذه الشخصيات المندفعة الحادة لا تعبأ كثيرا بتفسير نفسها للآخرين. إنها تعشق التجارب الساخنة، وتلقي بنفسها في لهيب النيران، دون حاجة إلى شرح أو تبرير.
هذا شاعر انجلترا العظيم اللورد بيرون “1786 – 1824” يقضي القسم الاول من حياته القصيرة في مطاردة النساء، ويقول كلمته المشهورة : “ليت للنساء جميعا ثغرا واحدا … إذن لقبلته واسترحت”، وهي كلمة تلخص معظم تاريخه العاطفي العاصف المجنون، فقد كان يقضي أيامه في الإيقاع بأجمل نساء عصره، ثم سريعا ما يسأم ويشعر بالملل عندما ينتصر على قلب امرأة، فيتركها إلى غيرها، ويظل هكذا ينتقل من جميلة إلى جميلة، كأنه يصيد العصافير، وكأن لذته الكبرى هي “الصيد” وليس امتلاك “العصفورة” التي تسقط بين يديه، مكسورة الجناح، ينزف الدم من جسمها الصغير.
ويقال إن اضطراب علاقة الشاعر “بيرون” بالنساء كان سببها أمه، فقد كانت شخصية عصبية، وكانت تعامل ابنها بقسوة وعنف، وكان أبوه قد مات وهو طفل صغير، فأصبحت أمه – بشخصيتها الحادة – هي المسيطرة على طفولته وصباه، مما أدى به إلى كره أمه، وكره كل النساء بعد ذلك.
ورغم أن “بيرون” كان “أعرج” منذ ولادته إلا أنه كان وسيما ساحر العينين، وكان إذا نظر إلى إحدى نساء عصره ونفذت سهام نظراته إلى القلب، فأحبته الكثيرات إلى حد الجنون، وكرهته نساء أخريات رأين فيه شيطانا جميلا … ولكنه في النهاية شيطان يقود التابعين له والمتعلقين به إلى الهلاك.
وقد بلغ الإجرام بهذا الشيطان الجميل إلى حد العشق لأخته غير الشقيقة “أوجستا”، وشاع عنه أنه عاشر هذه الأخت معاشرة الأزواج، وهو اتهام فظيع يشك فيه الكثيرون، ويؤيده ويبرهن عليه كثيرون أيضا .. وبين الشك والتأييد تبقى الحقيقة تائهة وحائرة. ولكن القصة تدل على نوع السمعة التي لحقت بهذا الشاعر العبقري الجميل، فهي سمعة ملعونة تحط من قدره وتمرغ اسمه في الطين.
ولم يكن “بيرون” يعبأ بشيء من ذلك، فقد كان مندفعا إلى هوايته في ” صيد” الجميلات أينما وجدهن، وكيفما كانت قرابته منهن.
وبالطبع كان “بيرون” شاعرا رائعا، فلم تعرف اللغة الانجليزية سحرا يفيض من الكلمات بعد روائع شيكسبير، إلا عندما ظهرت أشعار “بيرون” فكان سحر هذه الأشعار يطرب الامة الانجليزية بل والقارة الاوروبية بأكملها، وقد قالت إحدى صحف باريس عندما مات بيرون في19 أبريل سنة 1824: “إن أعظم رجلين في أوروبا في الجيل الحالي هما : نابليون بونابرت و … لورد بيرون”.
كان “بيرون” يزعج عصره ومجتمعه بمطاردته الجنونية لجميلات أوروبا من الطبقة الأرستقراطية التي كان ينتمي إليها بالوراثة، وكان يطرب الناس بأشعاره البديعة فيغمضون أعينهم عن جانبه الشيطاني. وفي تلك المرحلة الشيطانية من حياته كان الناس يلاحظون فيه رقة ولطفا في بعض المواقف، ومن ذلك أن هذا المفتون “يكسر” قلوب الجميلات، كان شديد الحب والوفاء لكلبه “بوتسوين”، وكان يرعاه رعاية الاب لطفله الوحيد المدلل، وعندما مات الكلب حفر له بيديه قبرا ودفنه فيه، وكتب فوقه : “هنا رفات كائن أوتي الجمال بلا غرور، والقوة بلا غطرسة، والبساطة بلا عنف، وأوتي كل فضائل الانسان دون رذائله، وهذه الكلمات التي لوحطت على قبر إنسان لكانت دليلا على النفاق والسخف ، ليست إلا شهادة حق وصدق في الكلب الذي ولد في 3 مايو 1803 ومات في 18 نونبر 1805″
وهذا العابث اللاهي في معارك القلوب كان من كلماته أن ” الذي يمسح دمعة واحدة يستحق من المجد الشريف أكثر من ذلك الذي يريق بحارا من الدماء”.
هذا الشاعر الأعرج الساحر الجبار ينتقل فجأة من حياته الشيطانية ليصبح بطلا من أبطال الحرية، ويموت وهو يدافع عن شعب كان يخوض معركة من أجل حريته واستقلاله.
فقد قامت في اليونان ثورة كبرى ضد السيطرة التركية حوالي سنة1836 ، واستمرت هذه الثورة حتى سنة 1831، ووجد “بيرون” في هذه الثورة ما جعله ينتقل بصورة حاسمة من حياته اللاهية، إلى حياة نضالية قاسية، دفع فيها الكثير من ثروته، وقدم لهذه الثورة كثيرا من السلاح الذي اشتراه بماله الخاص، وذهب بنفسه إلى اليونان ليحمل السلاح مع الثوار، ويساهم في قيادتهم، ويموت في آخر الأمر بينهم.
انقلبت حياة الشاعر رأسا على عقب، عندما قرر أن يلتحق بثوار اليونان. ويقف معهم في الصف الأول، ليدافع عن الحرية، وليساهم بقوة في أن يجعل شمس الحرية تشرق على أرض ” هوميروس” و “سقراط” و “أفلاطون وأرسطو والإسكندر … أرض الشعر والحب والجمال والبطولة. وفي مدينة “ميسولونجي” اليونانية أصيب “بيرون” – وكان في السادسة والثلاثين من عمره بمرض مفاجئ لم يمهله إلا أسابيع قليلة، ثم قضى عليه، وقبل موته كان يقول لطبيبه : “أتظنني حريصا على الحياة؟. لقد ضقت ذرعا بها، وإني لأرحب بساعة الرحيل منها. فلماذا أشعر بالأسف عليها؟. أيمكن أن أجد فيها أي مسرة حقيقية؟.
قليل من الناس من عاش “أسرع” مني . إنني شاب عجوز ما كدت أبلغ الشباب حتى بلغت ذروة الشهرة. وقد عرفت كل لون من ألوان الملذات التي يمكن ، أو لا يمكن، أن تتاح للبشر، وقد سافرت، وأشبعت تطلعي، وأضعت أوهامي وأحلامي جميعا …، !
كان يخاف من أن يصاب بالجنون، خاصة أن طبيبه قال له إنه مريض بنوع من الحمى” يؤثر على خلايا المخ. وكان يفضل الموت على الجنون. وقد تحقق له ما أراده، فقضت عليه الحمى ومات قبل أن يفقد عقله. ولكنه مات وهو يكافح من أجل “الحرية” ومات وهو يعيش بين أفراد الشعب اليوناني في مدينة “ميسولونجي” ينظم صفوفهم ويشتري لهم السلاح، ويتحول بالنسبة لهم إلى قائد وزعيم، ولم يكونوا يعرفون شيئا عن شعره ومكانته الأدبية الرفيعة، وكل ما كانوا يقولونه عنه بعد وفاته هو ” إنه كان رجلا شجاعا جاء ليموت في سبيل بلادنا، لأنه كان يحب الحرية”.
هكذا انقلبت حياة هذا الشاعر الكبير ، فانتقل من عالم الترف واللهو إلى عالم الكفاح والنضال، واستطاع ، وهو شاعر الحب والهوى والعواطف الجامحة المجنونة، أن يكون من أكبر شهداء الحرية من القرن الماضي ، كما استطاع أن يلفت الأنظار إلى كفاح اليونان ضد السيطرة التركية وأن يرغم المترددين في أوروبا على أن يقفوا إلى جانب أحرار اليونان ويساعدوهم على تحقيق هدفهم في الاستقلال.
وفي المكتبة العربية كتاب بديع عن “بيرون” يروي تفاصيل حياته وتقلباته، وهو من تأليف الكاتب الفرنسي “أندريه موروا” وترجمة الأستاذ أحمد الصاوي محمد ، كما أن ديوان “بيرون” الكبير ” رحلات تشايلد هارولد” له ترجمة عربية راقية قدمها الدكتور عبد الرحمن بدوي منذ حوالي خمسين سنة.
ونترك بيرون، لنتوقف أمام شاعر عربي من نفس الطراز، وقد ظهر هذا الشاعر في العصر الإسلامي الأول، وكان في بداية حياته وثنيا يجد في الوثنية متعة وراحة، ويجد فيها على وجه الخصوص حرية في شرب “الخمر” التي كان يعشقها إلى حد الجنون.
ثم جاء الاسلام، فغمر الجزيرة العربية بنوره ، وكان شاعرنا من أواخر الذين اعتنقوا الدين الجديد بعد تردد طويل، ولكنه عندما أسلم كان من أكثر الصادقين في إيمانه، إلا انه كان عاجزا عن التخلص من دائه القديم وهو “الخمر” وكان الإسلام يأمره بأن يمتنع عن الخمر، وهو أمامها ضعيف الإرادة، ولذلك أخذ يبحث عن فتوى تبيح له الجمع بين دينه الجديد وبين هواه القديم، وهي فتوى مستحيلة.
هذا الشاعر العربي له اسم بدوي ثقيل، هو “أبو محجن” ولكن الشاعر الذي يحمل الاسم الصعب وينتمي إلى قبيلة عربية شهيرة هي “بنو ثقيف”، كان يحمل قلبا عامرا بالعواطف القوية، وكان شاعرا من أعذب شعراء العرب، وكان من الطبيعي أن يجعل ما يتغنى به من الشعر، هو شعر “الخمر” فالخمر هي “هواه” وهي نبع سروره ونشوته في الدنيا، وقد آمن بالاسلام صادقا غير كاذب ، وأطاع المبادئ الدينية في كل صغيرة وكبيرة، ولكنه عجز عن الارتفاع بإرادته إلى الحد الذي يمنعه من شرب الخمر، فكان يشربها ويتغنى بها، ويقول في هذا الغناء:
إذا مت فادفني إلى أصل كرمة تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني بالفلاة فإنني
أخاف إذا مامت ألا أذوقها
فهو لا يخاف من الموت. ولكنه يخاف أن يحرمه الموت من ألا يذوق الخمر. ولذلك فهو يتمنى على صاحبه أن يدفنه بعد موته تحت جذور “كرمة” – أي شجرة عنب – فمن العنب يخرج “النبيذ” وهو يأمل أن يكون مدفنه الذي يتمناه “خمارة” تسقي عظامه – بعد موته بهذا النبيد الذي يهواه.
وهو لا يحب أن يدفن في رمال الفلاة – أي الصحراء – فإنه يخشى إذا دفن في هذه الرمال التي ليس فيها أشجار عنب ألا تذوق عظامه الخمرة التي يعشقها أكثر من عشقه للحياة.
كان هذا الشاعر الرقيق الذي يطلق لمشاعره الفطرية العنان، ولا يتردد في الاعلان عنها، والتغنى بها يعيش في عصر ” عمر بن الخطاب”، وهو عصر ليس فيه “فصال” بين الخير والشر، وعصر ليس فيه كبير يعلو على المساءلة والعقاب إذا ما انحرف وأخطأ.
ولم يفلت الشاعر البدوي الرقيق من عدالة ” عمر ” التي لا تعرف المساومة، فقد أمسكت به الشرطة وهو يحتسي الخمر، وكان حوله عددا من أصحابه الذين يشتركون معه في مجالس الأنس والشراب. وجاءت به الشرطة إلى عمر فسأله:
- أشربت الخمر بعد أن حرمها الله؟
فأجاب الشاعر في جرأة ومحاولة للإفلات من العقاب واختراع فتوى تبيح له الشراب:
- كيف حرمها الله يا أمير المؤمنين وهو يقول في قرآنه الكريم : ” ليس على اللذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا، إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات”.
ويصور لنا الأديب العربي الكبير أحمد حسن الزيات في فصل رائع له من كتابه ” وحي الرسالة” ما جرى بعد ذلك فيقول :
“وقف صاحب رسالة القضاء عمر من حجة الشاعر موقف الحائر، ثم التفت إلى من حوله من صحابة الرسول يستمد رأيهم في الأمر فاختلفوا فيه، فأرسل إلى “علي” مرجع الفتوى وفيصل الحكم يستشيره، فقال “علي”: ” إن كانت هذه الآية كما يقول فينبغي أن يستحل الميتة والدم ولحم الخنزير”
وبناء على فتوى “علي” تم “جلد” الشاعر عقابا له على شرب الخمر وأثناء جلده كان الشاعر يقول :
وإني لذو صبر وقد مات إخوتي
ولست عن الصهباء يوما بصابر
و” الصهباء” هي الخمر. والشاعر يقول هنا، وهو يتلقى عقوبة الجلد، إنه صبر على موت إخوته، ولكنه لا يستطيع الصبر يوما على الخمر.
وقرر الشاعر أن يهرب من المدينة ، لأنه كان مصرا على الشراب، وكان عمر مصرا على “جلده” كلما امسكوا به وهو يشرب.
واختار الشاعر أن يهرب إلى سعد بن أبي وقاص في العراق، ظنا منه أنه سوف يجد في “سماحة” سعد نجاة من عدالة عمر وعقابه.
وفي العراق كان “سعد” يخوض معركة تاريخية حاسمة ضد الامبراطورية الفارسية، هي معركة القادسية ، وكان سعد قد تلقى من عمر رسالة يأمره فيها بحبس الشاعر عندما يقع بين يديه، وهذا ما حدث للشاعر بعد وصوله إلى معسكر سعد بن أبي وقاص، قائد الجيوش في معركة القادسية، فقد حبسه وقيده من رجليه، وأبقاه في بيته على هذه الحالة.
ثم بدأت المعركة الحاسمة بين العرب والفرس، والشاعر المقيد في الأغلال ينظر إلى ما يجري ويشعر بالحسرة لأنه غير قادر على مشاركة الرجال في هذه المعركة الكبيرة، ثم طرأت في ذهنه فكرة ، فأقنع “سلمى ” زوجة القائد بأن تفك قيوده ليشارك في المعركة، ووعدها بأن يعود بعدها – إذا لم يقتل – ويضع رجليه في القيود كما كان، ووافقت “سلمى” بعد أن أحست بحماسه الصادق للمشاركة في القتال، وانطلق الشاعر إلى ميدان المعركة ليقدم فيها أعلى مثل للبطولة والرجولة وإتقان فنون الحرب وعدم التهيب من الأعداء، حتى تحول إلى شعلة أثارت أرواح العرب المحاربين فخاضوا معركتهم وراء هذا الفارس المجهول الذي لا يعرفون عنه شيئا، حتى استطاعوا أن يحققوا النصر وينجحوا في القضاء على جيش الفرس ، وعاد الشاعر إلى سجنه، ولكن “سلمى” أخبرت زوجها القائد “سعد بن أبي وقاص” بما كان من الشاعر السجين، وكان “سعد” قد رأى بنفسه ما قام به الشاعر أثناء المعركة من جهد ملئ بالجرأة والفتوة والرجولة والخبرة، ولكنه لم يكن يعرف أن هذا الفارس الشجاع هو نفسه الشاعر السجين، فلما عرف الحقيقة من زوجته، فك قيود الشاعر وأطلق سراحه.
ونعود إلى مرجعنا الأساسي في هذه القصة وهو كتاب” وحي الرسالة للزيات فنقرأ فيه:
“قال سعد للشاعر وهو في حماسة الإعجاب ونشوة الغبطة: والله لا أحبس رجلا نصر الله المسلمين على يديه هذا النصر، ولا أعاقبه إذا شرب ، فقال الشعر ” أبو محجن” وقد بدت عليه دلائل النبل والمروءة: وأنا والله لن أذوقها بعد الساعة، لقد كنت أشربها خشية من أن يقولوا إنه يخاف العقاب، وأنا الآن أتركها رغبة في أن يقولوا خاف الله”.
وهكذا تحول هذا الشاعر البدوي الظريف تحولا كبيرا، وهو نفس ما حدث للشاعر “بيرون” في أوروبا، فقد انتقل الشاعر العربي من عاشق للخمر، إلى عاشق للجهاد، وذلك عندما وجد أمامه “قضية” مثيرة لحماسته وعواطفه القوية، فقرر أن يخلع ثوب المتعة واللهو، ويلبس ثياب المقاتلين الذين يتميزون بالرجولة، ولا يتركون أهلهم في محنتهم دون أن يشاركوا بقوة في دفع هذه المحنة والخلاص منها”.
لقد انتقل عاشق الخمر انتقالة قوية عجيبة، وحمل هذا الشاعر سيفا بعد أن كان يحمل زجاجة خمر، وانطلق يبحث عن جمال الحياة في قلب الخطر المحيط بأهله وشعبه، ورأى أن نشوة العمل من أجل قضية كبيرة أعلى بكثير من نشوة السكر. وليس لذلك التحول المدهش من تفسير إلا ان المجتمع عندما ينهض فإنه “يشد” معه كثيرا من عناصره المبعثرة الضائعة، ويغريها بإعادة النظر في مواقفها المضطربة. ولاشك أن الشاعر العربي وجد في المعركة التي كان يخوضها مجتمعه ما يثير في نفسه معاني القوة الكامنة، وهي قوة كانت تبحث عن مجال حيوي تنطلق فيه، وقد وجد هذا المجال في معركة “القادسية” فاندفع للتعبير عن عواطفه الملتهبة في المعركة النبيلة التي أخرجت من داخله أروع صفاته وأعمق معاني الرجولة فيه.
فإذا التقينا بأي شاعر عذب وديع، يرسل أغاديه في نشوة وجمال، فلنكن على حذر شديد.
إن هذا الشاعر يمكن أن ينقلب فجأة إلى مقاتل، يحمل سيفا ويثير زوبعة وعاصفة، ويدافع عن مبدأ وعقيدة، ويخوض بحار الموت في شهامة وصلابة، ولعل هذا التحول من “الكأس” إلى “السيف” عند أصحاب العواطف المشتعلة لا يحتاج إلى شيء كما يحتاج إلى أمة قوية لها هدف وقضية ولديها ما تقدمه للنفوس الكبيرة والقلوب المتفجرة بحب الحياة.