المراكز البحثية المغاربية وصنع القرار السياسي
مراكز الأبحاث والدراسات، قبل أن تكون انتاجا ثقافيا ومعرفيا، هي منجز حضاري متميز، فهي المرآة التي تعكس اهتمام الامم والشعوب بالعلم والمعرفة واستشراف افاق المستقبل وفق المنظور العلمي والمعرفي، كما تعكس توجه الامم والشعوب، في حفظ المنجز الفكري والسياسي والاجتماعي لمجتمع ما، هو ممارسة واعية بالتحولات والتطورات التي تحصل في المجتمع، وعملية هادفة لتأكيد الذاكرة الحضارية، فتلك المراكز هي بمثابة المخزن والوعاء لذاكرة التاريخ الانساني في أبعاده المختلفة، وعلى حساب واهتمام واختصاص مراكز البحث، وهي ايضا كحدث أو منجز حضاري، وليد الواقع النهضوي.
إذ يسعى كل مجتمع في مسيرته إلى تأسيس الاطر والاوعية المنسجمة مع الظروف التاريخية، التي تحفظ منجزاته العلمية والمعرفية، وتسعى نحو تطورها وتأكيدها في الوسط العام، حيث أصبحت مراكز الابحاث والدراسات في معظم دول العالم تلعب دورا مهما في انتاج المعرفة والبحث العلمي، لما لها من دور هام في صياغة السياسة العامة للدول في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتعليمية وغيرها.
وبفعل تعدد قضايا القرار السياسي وتشعب مهام الدولة الحديثة، خصوصا الدول التي تمتلك سياسة خارجية فاعلة، وتعتبر نفسها معنية بشكل جاد بما يحصل خارج حدودها بحيث تؤثر وتتأثر فيه، فقد لجأت تلك الدول إلى اتاحة المجال لمراكز الدراسات والأبحاث برفدها التحليلات والاستشارات والتوصيات التي تمثل نتيجة عمل الخبراء في الميادين المختلفة الواقعة محل اهتمام القيادة. بحيث تحول بعض تلك المراكز في بعض الفترات إلى وزارة خارجية في “الظل” تمارس دورا وتأثيرا كبيرين.
وفي هذا الإطار، يعتبر ريتشارد هاس” أن مراكز الدراسات تقوم بسد الفجوة بين النطاق الاكاديمي من جهة، وبين مؤسسات الحكومة من جهة أخرى، ففي الجامعات يتم القيام بالأبحاث بخلفية نظرية ومنهجية بعيدا عن المشكلات الحكومية، يغرق الموظفون في المتطلبات اليومية لصناعة السياسات، بما يصعب عليهم العودة خطوة إلى الوراء للأخذ بعين الاعتبار المشهد الواسع للسياسة، فتقوم المراكز بدور سد الفجوة بين الفكر والتطبيق.
وختاما يمكن القول أنه في العقود الاخيرة من القرن العشرين تزايد الاهتمام بمراكز الأبحاث عالميا بشكل واضح ، فقد أصبحت تمثل أحد الدلائل الهامة على تطور الدولة وتقييمها للبحث واستشراف افاق المستقبل، انطلاقا من عد تلك المراكز مؤشرا للمنجزات الحضارية والثقافية وعنوانا للتقدم وأحد مؤشراته في التنمية ورسم السياسات، وتعد عملية دراسة القضايا والمشكلات التي تواجه المجتمع والدولة وتحليلها، من أهم الادوار التي تضطلع بها المراكز البحثية عموما.