التعليمُ إكسيرُ التنمية
إعداد عبد الحي الرايس
ناشئةُ الوطن مَنْجَمُهُ الثمين، ومَشْتلُهُ الكبير، وثرْوتُه التي لا تُقَدَّرُ بثمن
والتعليمُ راعيها ومُتعهِّدُها، مُكتشِفُ قابلياتها ومواهبها، ومُعِينُ كُلٍّ منها على معرفةِ طريقه، واستكمالِ نُضْجه، وتحقيقِ ذاته.
طفلةٌ مُهْمَلةٌ في بلد، واتَتْها فرصةُ حَظٍّ بالانتقال إلى بلدٍ آخر، نالتْ فيه حظَّها من التعليمِ واستكمالِ التكوين، فتحولتْ من راعيةٍ في بلدِ الْمَنْشَإ إلى وزيرةٍ في بلدِ المَهْجَر.
وأخرى على كَتفِ مُتَسوِّلة، وآخر في ورشةِ حدادة، يُطِلاَّنِ على عالمٍ مَوَّارٍ بالحركة، وليس يُدرَى ماذا ستصْنعُ بهما الأيام، وأين ستَقْذفُ بهما وسط الزحام.
وكثيرون هم المنْسيون في أعالي الجبال والقرى النائية، وحتى في الفصول المكتظة، والمدرسةِ العموميةِ التي رُفِعَتْ عنها اليد، ووُكِل أمرُ الناشئة فيها للأطر المتعاقدة.
وفي نفس السياق كفاءاتٌ تنضج، بعزيمةٍ لا تُغْلَب، وعصاميةٍ لا تُحْبَط، تَفْتقِدُ فرصتَها في الوطن، فتلتمسُ قَدَرَها في المَهْجَر.
والعالمُ قريةٌ صغيرة، وكُلُّ البلاد التي حققت وثبتها، ورفعت شأنها، جعلت التعليمَ تحديَها الأكبر، ورهانَهَا الأول، ومضتْ في طريقها ترفعُ شأنَ المعلم وتُقدِّسُه، تُوحِّدُ التعليم وتُعمِّمُه، تُفَرِّدُهُ وتُطوِّرُه، تَمنحُ البحثَ العلمي نصيبه الكبير، تُلزمُ بالتعليم الجميع، وتُسَوِّي فيه بين ابْنِ البسيطِ ونَجْلِ الوجيه.
وبذلك تُراهنُ على استثمار كافةِ مواردها البشرية، فليس يُدْرَى من أين تتفجَّرُ طاقاتُ النبوغ والعبقرية.
وإن بلداً ينْأى عن ذلك، ويتلمَّسُ السبيلَ نحو التنمية برفع الشعارات، أو توحيدِ المسارات، لن يُنتجَ غير النَّمَطية، ولن يبرحَ مكانه عند أسفل سُلَّمِ التنمية، وسيظلُّ البلدَ الْمُصِرَّ على الإمعانِ في إضاعةِ البوْصلة.
النهرُ لا يَنْسَى مَجْرَاه
تحذيرٌ تناقلتْهُ الأجيال مُنبِّهةً إلى أن النهرَ مهْما قلَّتْ به المياه، أو تلاحقتْ عليه سنواتُ الجفاف، فلا مندوحة له يوماً عن التدفق بالسيْل العاتي يذهب بكل ما يلقاهُ في طريقه، فالنهرُ لا يملكُ تغييراً لمجراه.
وما أَمَرَّ أن ترى فِتْيةً في مَيْعة الصبا وعُنفوان الشباب يُداعبون الكُرة، وآخرين يعْتلُون سطحَ مقهى للفرجة والمتابعة يطغى عليهم السيلُ فيجرفهم في لحظة، ولا يُبْقي لهم على أثر.
حدثٌ كهذا لا يُعقل أن تطويه لحظةُ أسَى، ومراسِمُ مأتم، وهو لا يخص تارودانت وحدها، فقبلها أوريكا ومدنٌ وقرى تعبُرها الأنهار، ويتطاول عليها الإنسان، فيُقيمُ عليها الملاعب والمقاهي والمنشآت، بترخيص أو بغيره، فتنعمُ فترةً بالأمان، ثم يأتي عليها الطوفان، فيدُكُّ البُنيان، ويُغرقُ الإنسان.
وكالمعتاد ستُفتح المحاضر، لتحديد الخسائر، وتقصِّي المسؤولين عن المخاطر.
ولكنَّ ضميرَ الأمة يقضي بالتصدي لظاهرة التجاوزات التي تستبيحُ مجاريَ الأنهار وضفافَها، وتُقيم عليها أنشطةً عابرة، أو منشآتٍ دائمة لتجتثها من جذورها، فلا شيء من هذا يُقبل، وما هو موجودٌ ينبغي أن يُزال ويُمْحَق، وإلا فسنكون كمن يحيا بلا ذاكرة، لا نستفيد درساً، ولا نستخلص عبرة.
رحم الله فِتيةً أضاعهم الإهمال، وجرفهم الطوفان، ولتنطلق مبادراتُ تحرير الملك العام، وإخلاء مجاري وضفاف الأنهار، حداً للخسائر، وإنقاذاً للأرواح.
ولْتحُلَّ اليقظةُ الواقية، والتدابيرُ الحازمة، والخُضرةُ الزاهية، على ضفاف الأنهار، محلَّ الترخيص أو التغاضي عن كل ما يجعلُ البُنيانَ والإنسان في مَهَبِّ الأخطار.
عَوْدٌ على بَدْءٍ
رُبْعُ قَرْنٍ يَفصلُ بين كارثةِ أوريكا (1995) وفاجعةِ تارودانت (2019)، ونفْسُ الظاهرة تتكرر، وكأنْ لا شيءَ من حولنا تغير، فصخرةُ الإهمالِ واللامبالاةِ لا تكادُ تتزحزح.
وأذكُرُ في فترةٍ أن لجنةً لتدبير المخاطر كانت تُعقَدُ بانتظام على مستوى الأقاليم والجهات، فتتحسَّبُ وتتهيَّأ، تُشخِّصُ الواقع، وتُعبئ المصالح، وتتخذ من التدابير ما يدرأ المخاطر، أو يُهَوِّنُها عند وقوع أي طارئ.
ثم طوى كُلَّ ذلك النسيان، وغاب الإشفاقُ من الصيرورةِ والحدَثان، وصارت المفاجأةُ سيدةَالميْدان.
والحالُ أننا في يومنا مستهدفون للمخاطر أكثرَ منا في أمْسنا، فالتغيراتُ الْمُناخيَّةُ صارتْ مُتسارعةً مُفاجئة، وحظيرة العربات أضحت مُتنامية، وحوادثُ السير باتتْ مُتفاقمة.
مما يَقُومُ شاهداً على أن أصحابَ القرار مدعوُّون اليومَ أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى إلى تفعيل الحكامة، بإرساء تقليدِ استحضار جميع الفاعلين للتشاور والتناصح، والتعاون والتكامل، في تحيين المعطيات، والتذكير بالتشريعات، والتنبيه للاختلالات، والتحسبِ للمفاجآت.
وعناوينُ اللجان لا تزال بالذاكرة عالقة، وينبغي لها أن تصير في الممارسة حاضرة:
ـ لجنةٌ جهوية لتدبير المخاطر
ـ ولجنة جهوية للسلامة الطرقية
ولجان أخرى تُعنى بالاستثمار والتعمير والتأهيل
رسالتنا أن نَمْحضَ النصيحة، وندعوَ لرفع الوتيرة، وتثبيت كل عادةٍ حميدة.
ولا شيْءَ يسمُو على الاهتمام بشؤون البلاد والعباد، والسعي لتعميم العدل وتحقيق الإنصاف والإسعاد.
فدرْءُ المخاطر واجب، ورفعُ وتيرة التنمية لن يتأتى إلا بتعبيدِ مسارٍ لاَحِب، بتخطيطٍ هادف، وعزم ٍ حازم، وتتبُّعٍ ساهر.
نَشِّئُوهُمْ على الأمَانة
فهي مَصْدرُ الشعور بالكرامة، والنبلِ والشهامة، وإذا وُفِّقتُم في ذلك فاطمئنوا ـ عند صغاركم ـ إلى السلوك القويم، ولو غبتُم عنهم وغاب الرقيب.
في الأثر: ابنةٌ في عهد عمرَ بنِ الخطاب همَّتْ أمُّها بإضافة ماءٍ إلى لبن، سألتها ألا تفعل، فتعللت الأم بغيابِ الرقيبِ عمر، ردتِ البنتُ قائلة: ولكن الله يرانا، فبُهِتَتِ الأمُّ، ورَنَّ ذلك في أذن عمر، فكان له وقعٌ وأثر.
وفي مجتمعٍ تطغى عليه الانفلاتات، وتحيُّنُ الفرص لمراكمة المكتسبات يُسَجَّلُ من نبيل الحالات:
ـ طفلةٌ في الثانيةَ عشْرةَ، تُهَرْولُ من مجموعتها راكضةً نحو لُفافةِ نقودٍ وقعتْ من صاحبها، تلتقطها لِتُعيدها إليه قبل أن يرْكبَ عربتَه.
ـ وفتيةٌ صغار عثروا على مبلغٍ غيرِ يسيرٍ من المال أبَوْا إلا أن يبحثوا عن صاحبه ويردوه إليه، فكان لهم ما أرادوا، وبالعزة وسُمُوِّ النفسِ فازُوا.
ـ وآخرون وجدوا حقيبة وقعت من صاحبتها عند باب السيارة، فمكثوا منتظرين، ولها عند عودتها مُرْجِعين.
ـ سكانُ قريةٍ تنقلبُ شاحنةٌ مُحَمَّلَةٌ بالبضائع على مقربة منهم، فيهبون مسرعين، للبضائع مُجَمِّعين، وعليها ساهرين، إلى أن أعادوها إلى أصحابها بأمانتهم معتزين.
ـ وحين يسودُ مجتمعُ الأمانة تجدُ صاحبَ المتجر والضيعة يغيب مخلفاً المحصول أو البضاعة، والميزانَ ولائحة الأثمان، وصندوقاً تُودَعُ به المبالغُ في أمان.
ـ قد يُقالُ: إن هذا يَحدُثُ في بلدنا استثناءً، وعند غيرنا اطراداً.
ولكن بذور الخير ينبغي أن تُنثَر، وما أخْصبَها حين تصدُرُ عن الكبار عفواً، وتاتي ردود فعلهم قصداً، فتعْلقُ بذاكرةِ الصغار، وتنْغرسُ في البال والوجدان، فتُلْهِمُ خير السلوك والأفعال.
ـ في بلدٍ اشتهر شعبه بنبيل الصفات والأفعال، ما أن لُوحظتْ فيه بعضُ الانفلاتات، حتى سارع مربوه إلى رفع درجة الاهتمام بدرس الأخلاق، لتثبيت حميد الممارسات.
قد يقال: إن هذا خطابٌ لفئة لم تَعُدْ موجودة، فياتي الرد بأن بذور الخير في الصدور مبْثوثة، يكفي ريُّها بصادق الخطاب، ورائع المثال، لتصيرَ مُعْلَنَة مَلْمُوسَة.
مَنْ يَجْرُؤُ على زَحْزحَةِ الصَّخْرة؟ !
صخرةِ العاداتِ والتقاليد التي دأب عليها الكثيرون في مُناسباتهم ومآدبهم، بل حتى في حياتهم الخاصة ومع ذويهم.
فقد ترسَّختْ في الأذهان نمطيَّةٌ في تناول وجبة الْغَدَاءِ أو الْعَشَاء، تتمثلُ في البدْءِ بِمُقَبِّلات (سَلاطات)، فَطَبَق (من لحم أو سمك أو دجاج)، فَتَنْقِيلَة (فوَاكِهُ وثلِيجَة)
يتشبثون بهذا التقليد، فلا يجرُؤون على التغيير، ولا يَقبلون له البديل
وتتلاحقُ النصائحُ والتحذيرات من أن الفواكهَ حَقُّها التقديمُ وليس التأخير ، فهي بعد الْوَجْبَةِ ضارَّةٌ غيرُ نافعة، أما الثليجة بعد الأكل فأخطارُها مُؤكدة، وأضرارُها مُحققة.
مُسْتجداتٌ ومُعطيات يتمُّ تداوُلُها، وتقاسمُ الوعي بصوابها، وجدْوى الأخذ بها، ولكنْ لا أحدَ يجرُؤُ على التصحيح والتغيير، فالْكُل مُسْتسْلمٌ لِسُلطانِ العادةِ والتقليد، مُتهيِّبٌ الاجتراءَ على التغييرِ وتقديمِ البديل.
وصدق من قال: “اجْعلْ غِذَاءَكَ دواءَك، حتى لا يصيرَ دوَاؤُكَ غِذاءَك”
الصَّخْرةُ ينبغي أن تُزَحْزَحَ انطلاقاً من الحياةِ الخاصة، فإلى المناسباتِ، والمآدبِ العامة.
وتلكمْ رسالة المثقفين الْمُسْتنيرين، والْمُمَوِّنين الْمُتميِّزين، فمُبادراتُهم أوْقَعُ في النفوس، وأحقُّ بالمحاكاة والاستلهام على النحو المقصود.
والمُجترِئُون على التغيير، المُسارِعوُن إلى تقديم البديل، سيفوزون بقصَبِ السَّبْقِ والرِّيادة، لتحطيم صَنَمِ التقليدِ والْعَادَة.
وعلى الْعَكْس من ذلك تسجيلُ اختفاء تقليدٍ محمود كان يَسْبق صَفَّ الموائد، خاصة في المآدب، هو الْمُتمثلُ في إدارةِ الطسْتِ والمنديل لغسل الأيدي قبل تناول الطعام، كان ينقصُهُ إضافة الصابون انْسجاماً مع دعوة اليوم العالمي لغسلِ الأيدي بالماء والصابون، (الذي يصادفُ الخامسَ عشرَ من شهر أكتوبر من كل سنة)، خاصة قبل الأكل، وبعد الحمَّام، فإذا به يَغِيب.
ويتوافدُ المدعوُّون، فيتصافحون، ولأطراف الحديث يتجاذبون، ثم على الموائد يُقْبِلون، وقلَّمَا يكونُ الْحِرْصُ على التمهيدِ بغسلِ الأيدي بالماء والصابون.
وغيرُ ذلك كثير، ولكنْ من هُنا يَبْدأُ التغيير.
مَسِيرةٌ ومَسِيرات
مسيرةٌ كونيةٌ من أجل المُناخ أَطْلَقتْ صرختَها الأولى فتاةٌ في السادسةَ عشْرةَ من عُمْرها، كان بالإمكان أن تظلَّ صيحةً في واد، لولا أنَّ صِدْقَها واستماتتَها وتجاوُبَ الضمائر الحيَّةِ معها، وانطلاقَهَا من وَعْيٍ بالصيْرورة المُرعبة التي تتهددُ الأرضَ ومستقبلَ الحياة عليها، في تجلياتٍ تُذيبُ المحيطات، وتُدمِّرُ الغابات، تُلوِّثُ الأجواء، وتَخنُقُ الأنفاس، تكتسحُ الشُّطْآنَ وتَغْمُرُ الْأنهار.
هي مسيرةٌ تَصْدَحُ بشعاراتها حناجرُ الشبابِ والكهولِ والأطفال، وتتناقلُ حُشُودَها ولافتاتِها مُختلِفُ وسائل الإعلام، لها وقعٌ ودَوِيٌّ يُرْجَى أنْ يكون له رَجْعُ صَدىً لدى أصحاب القرار، على مستوى المُنتظَمِ الدَّوْلي وفي مختلِف الأوْطان.
وهي مسيرةٌ ـ على شسَاعَةِ رُقْعتها، وتكاثُر الحُشُودِ المتدفقةِ فيها ـ تظلُّ محدودةً في الزمان والمكان، وقدْ تَؤُولُ عند كثيرٍ من اللاَّمُبالين إلى أمْرٍ صارَ بالبال.
ولخطورةِ الباعثِ على مسيرةِ المُناخ، وهَوْلِ الفواجعِ المتلاحقةِ التي ستنجم عن الاستهانة بندائها، يتعينُ إرْفاقُها وإِتْباعُها بمسيراتٍ من أجل:
ـ إصلاح الأرض وترميم غاباتها، وتكثيفِ الأشجار بها، والرفقِ بالكائناتِ الحية بها، والحدِّ من الانبعاثاتِ والملوثاتِ التي تُؤذيها.
ـ إيقاظ الضمائر بالبيوتات والمدارس والإدارات، ومنابر الإعلام ومصادر التشريعات ومراكز القرار، حتى يهُبَّ الجميع لتهذيب النفوس وغرس قيم التسامح والمساواة، ونبذِ العنف والحروب، والكفِّ عن التهافتِ والأطماع، والحرص على إشاعة الخير والتكافل والإخاء، ونشر العدل والسلامِ بين بني الإنسان.
وهي مسيراتٌ ينبغي أن تنطلقَ وتتواصلَ ولا تتوقف، يسكُنها هاجسُ التغيير والإصلاح، تتشبعُ بروح الإصرار والإلحاح، يَحملُ شعاراتِها الصغارُ والكبار، تُسْكِتُ الحناجر، وتُوقِظُ الضمائر، تتجاوز المظاهر، إلى عُمق السَّرائر.
وفي عالمٍ يَمُوجُ بالتنافس والصراع، وانْهيارِ القيَمِ والأخلاق، يَبْدُو كسفينةٍ متعددةِ الثقوب، تتقاذفها الأمواج، يبقى على مُربِّيه ومُقرِّريه، ومثقفيه والمُستنيرين به أن يُلبُّوا النداء، فيتماسكوا ويَهُبُّوا للإنقاذ، وإلا فالسفينةُ سَيُغْرِقُها الطوفان.