التِّيهُ الُّلغَوِيّ
التِّيهُ تَخبُّطٌ وضياع، وبَحْثٌ مُتواصِلٌ عن سبيلٍ لِمَرْأَى النورِ وتَلَمُّسِ الاهتداء.
قِيلَ إنَّ البلدَ في أسفلِ مدارجِ سُلَّمِ التعليم، فتَحيَّنَ الفرصةَ أقوامٌ ليقولُوا : (إن اللغةَ مصدرُ التأخير، فَرْنِسُوهُ، دَرِّجُوه، بَسِّطُوا لغته تهْتدُوا وترْتقُوا).
ولو أن البلدَ كان يعيشُ في فَلَكٍ خارجَ الأفلاك، ولا يَمْلكُ بوْصلةً للاِهْتداء، لَصَحَّ له أن يُجرِّبَ ويُعددَ التجارب، ويستجيبَ لكلِّ نَاعِق.
ولكنَّ التجربةَ الإنسانيةَ في كل بلدٍ ناجحٍ رائد، أثبتتْ أنَّ اعتمادَ اللغةِ الوطنيةِ السائدة بتُرَاثها ومعياريَّتِها خيرُ سبيلٍ للفهم وتيْسيرِ امتلاكِ العلمِ والتقنيةِ وتثبيتِ الْهُوِيَّة .
جُلْ بنظرك في بلاد العالم تجدْ أنَّ اليابانيةَ والصينيةَ أساسُ الوحدة والنهضة، وأن الْفتْنمةَ والْعَبْرَنَةَ أداةُ تأكيدِ الحضورِ وإثباتِ الْهُوِيَّة، وأن الإسبانيةَ والفرنسيةَ في أوطانها كانتْ سبيلَ وحْدةٍ ومصْدرَ اعتداد.
لا يُمارِي أحدٌ في أن واقعَ العصر ومتطلباتِ تعميقِ البحثِ والانفتاح تقتضي أن تُلْحَقَ بالتعليمِ لغةٌ ثانيةٌ وثالثة.
ولو أنهم سَنُّوا اعتمادَ اللغةِ المعياريةِ السائدةِ في البلد في جميع أسلاك التعليم، وعمَّمُوا استعمالَها في جميع المواد أداةً للشرح والتحصيل والتدوين بكلِّ سُبُلِ التأهيلِ ومُواصلةِ التكوين لأَنْتجوا الباحثَ المتخصِّص، والمِهْنيَّ المبتكر، والفنانَ المبدع، والمعلمَ الكفء، والتلميذَ الواعد، والإطارَ المتميِّز المتمكنَ من لغته والقادرَ على نقل مداركه إلى لغةِ غيره في ثقةٍ واعتداد، ودون تَعثرٍ ولا ضياعٍ واسْتِلاب.
فإلى متى التِّيهُ والعالَمُ من حولنا يُقدِّمُ الدليلَ تلو الدليل على أن الأوطانَ بلغاتها تتوحَّدُ وتتقدَّم، ولِمَدارجِ النماء ترْتقي، وبِلُغاتها تتميَّز؟ !
عبد الحي الرايس