
حضرت بحاضرة المدينة السلطانية يوم الجمعة 29 ربيع الأول 1440 الموافق 07 دجنبر 2018 نفحات تاريخية فريدة، دشنت عصر نهضة التراث، واخترقت فيه فضاءات جديدة للمعرفية الإنسانية، فقلبت التصور الإنساني السائد، ودفعت حركة التاريخ في اتجاه جديد، تناغما وفعاليات مهرجان مكناس في دورته الثالثة، وتبشيرا واستعدادا للإعلان عن الاحتفال باليوم السنوي للمدينة المزمع تنظيمه يوم 18 ابريل القادم، تيمنا باليوم العالمي للاحتفال بالمآثر والمواقع التاريخية، في تلاق مع المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة –ايسيسكو- وإعلانها سنة 2019 سنة التراث في العالم الإسلامي، تنفيذا لقرار مؤتمرها العاشر لوزراء الثقافة، حيث كان اللقاء عرسا ثقافيا بكل المقاييس، يتم الكشف فيه عن بديع خلق الله، وقد أطره وفعله نخب من المجتمع المدني بشراكة ورعاية جماعة مكناس، وقدمه وبلور رؤيته الإعلامية الاستاد محمد أمين النظيفي، ووثق وثيقة مراسيمه عبد ربه الموقع أسفله.
يوم خصص لقراءة جديدة لتراثنا القديم، كمكون أساسي لهويتنا، وعمدة حضارة كاملة تقدم نفسها بشكل لا جلال فيه، تجديدا للوعي بأسرار مكنون تراث المدينة فكرا وممارسة، اعترافا بحضارة الماضي، وتأسيسا لذكراه في المستقبل، حفظا للذاكرة الجماعية، وصونا لهوية شعب، تقديرا لما خلفه السلف، وضمانا لاستمراره للخلف، في محاولة للبحت عن جيل جديد من برامج العناية والمحافظة والتطوير، وفق رؤية شمولية متكاملة منطلقة من إرادة جماعية تشاركية، ردا للاعتبار، ورصدا لممكنات الإلحاق بالتداول الاقتصادي، تعريفا وترويجا وتدبيرا.
لقاء توج بندوة علمية برحاب المركب الثقافي للجمعية الإسماعيلية الكبرى”سينما الريف سابقا” تحت عنوان “مكناس تراث عالمي”، في مناخ تواصلي إشعاعي، شفع بترحيب خاص من رئيس جماعة مكناس الدكتور “عبد الله بووانو” منوها بتراث المدينة العالمي بكل تجلياته المادية وغير المادية، الممتد عبر التاريخ، والمنفتح تفاعلا أخدا وعطاء، مع الثقافات الإنسانية المتعددة المصادر، مباهيا بخصوصية طبيعته وما تعكس من شواهد مادية حضارية نسجت في مآثر عمرانية تزخر بهندسة فريدة النمط، ودونت في مخطوطات بحمولة معرفية تؤسس لمختلف العلوم والفنون والهندسة وقيم التعايش والتسامح، كما اعتبر اللقاء بداية رحلة البحث عن سبل الحفاظ على تراث المدينة وما يتطلب من برامج ومقترحات تدفع للانخراط بكل الطاقات في قضية تطوير وتجديد الرؤى المتبنية لتراث المدينة، تقديرا للمكانة التي تليق بها كمدينة سلطانية تختزل التاريخ بتراث كوني، خدمة للوطن والمواطن، ودعما لمبادئ وقيم الحكامة الجيدة الضمانة لدولة الحق والقانون بوصفها عقدا اجتماعيا يقوم على المؤسسات، وتناغما مع الورقة الدستورية، وتجسيدا لفلسفة الخطب الملكية التي بسطت خريطة طريق تثمين المدن العريقة.
وبحضور عدد من سامي الشخصيات، وممثلي الجماعات الترابية لجهة فاس-مكناس، ومجلس عمالة مكناس، وجماعة مكناس، وصفوة من الدكاترة والأكاديميين والخبراء والباحتين والأساتذة، توثيقا للآصرة العلمية، وتجديدا لعرى التواصل، عززت كدالك الجلسة العلمية بممثل مؤسسة محمد السادس لحماية البيئة الدكتور كمال بوسماحة، وتواجد حشد من البرلمانيين، وممثلي الأطياف السياسية والثقافية والرياضية، ورجال الصحافة، وممثل الجالية المغربية بمدينة نيم الفرنسية، وعدد من فعاليات المجتمع المدني لمدينة فاس كجمعية التراث والتواصل الاورومتوسطي في شخص رئيسها عبد الوهاب صباغي ادرسي، والنقابة المغربية للفنانين المبدعين ممثلة برئيسها الزجال والشاعر إدريس بوقاع مصحوبا بشخصيات أكاديمية على رأسها الكاتب والشاعر الدكتور الحسن بوقسيمي، كما سجلت مشاركات من المدينة الحاضنة لمشروع فكرة تأسيس الاحتفال، كان أهمها وأبرزها رئيس جمعية انقاد المدينة والمآثر التاريخية بمكناس السيد محمد بنيحيى، رفقة عدد من المنخرطين والمهتمين والغيورين، تنشيطا للحركة الفكرية، وتنمية لقدرات المدافعين عن قضية التراث، والحاملين لرسالاته من الباحتين والدارسين لعلوم التراث وما تعلق بها من صنوف المعرفة.
وقد ذكر الباحث في ميدان التراث عبد العالي بوزيان المعرف “بعلي زيان” بالشبكة العنكبوتية والمواقع الاجتماعية، والأب الروحي لفكرة اعتماد 18 ابريل كذكرى احتفالية سنوية بتراث المدينة، تيمنا باليوم العالمي للمآثر الكونية، في مقدمة كلمته، بان تراث مكناس ونواحيها موصوف بالعراقة التاريخية، ومتميز بموروث حضاري غني ومتنوع، كان وما يزال محطة إبداع المفكرين والمثقفين والعلماء والأدباء والشعراء والفنانين والمعماريين والصناع التقليديين، وقد شكل بإشعاعه مدرسة للتراث مكتملة الفصول، ومنبعا خصبا للإبداع والابتكار، ومجالا رحبا لإبراز التنوع الثقافي، معتبرا تراث المدينة متحفا مفتوحا من النفائس والذخائر لا نظير له عالميا، داعيا إلى مضاعفة الجهود للمحافظة على ثروته، وايلائه مزيدا من الاهتمام برموزه وأعلامه، في الخطط والبرامج الثقافية والتراثية، بما يضمن إبراز تنوعه وغنى خصائصه الجمالية والحضارية في بعدها الإنساني، وقد أتى زمن الالتفاتة بنظرة استشرافية إلى هدا المعطى الكوني الذي حبي الله به هده القطعة من ملكوته، داعيا إلى طلب أسباب الخلود لهدا التراث، بتسجيل كل مواقعه الأثرية بلائحة التراث، وتوفير الصيانة والترميم والحماية والتوثيق، وتعميم التكوين والتأهيل على الموارد البشرية العاملة في مجال التراث للارتقاء بمهاراتهم، واعتماد تكنولوجيا المعلومات والاتصال، وتعزيز التعاون والتنسيق بين المؤسسات الوطنية واللجان والمنظمات الدولية والإقليمية المتخصصة، كما ركز على فتح هدا الغنى التراثي على عالم الاقتصاد النفعي تشجيعا للاستثمار، ودعما للتنمية الشاملة والمستدامة، وتنزيلا للإرادة والتوجيهات الملكية السامية، ملتمسا زيارة ملكية تسدل رداء العز والوقار على المدينة وساكنتها، حاملة لرياح الاستفادة من برنامج النظرة الاستشرافية لتأهيل المدن في ايطار المشروع الملكي الكبير، مما كلل هده التظاهرة بالنجاح لقوة خطابها، وتوثيقها العلمي، وحمولتها الفكرية.
وقد استهل النشاط بآيات بينات من الذكر الحكيم، وافتتحت الندوة العلمية:
وكانت أول مداخلة من توقيع احد أبناء مدينة الأبواب الجميلة، وأول المدافعين عن قضيتها من أعلى هرم المسؤولية، الوزير السابق بوزارة الثقافة، الدكتور بن سالم حميش، تحت عنوان “المولى إسماعيل السلطان الاستثنائي”، وقد كانت عبارة عن جولة في أعماق التاريخ، تناول من خلالها بعد أن عبر عن سعادة تواجده في اللحظة التاريخية التي تعيشها باريس الصغيرة، مميزات السلطان المولى إسماعيل المغربي المتأصل من سلالة العلويين، المهاب الجانب، والمؤسس الفعلي للدولة العلوية، والموحد لجغرافيتها بتحرير الثغور، معرجا باقتضاب على أهم خصائص شخصه من علم، وعفو، وتذوق للموسيقى، وتصلب في خوض الحروب، واعتزاز بالإسلام اعتزاز العارف بالتاريخ والسنة النبوية، والمحب لحرية السجين، وباني مدينة المائة مادنة في نسخة أندلسية متكاملة النسق، كما سرد بايجا ز بان للاستثمار ثلاثة أوجه الفكر والبشر والحجر، وهدا ما صار عليه المولى إسماعيل بعد أن اوجد جيشا محترفا تحت إمرته الخاصة، وشجع الجهاد البحري، ونهج السياسة الاحترازية ببناء المخازن، وطالب باسترجاع الكتب والمخطوطات، ولقن النساء الأدب والموسيقى، كما سن الزواج الغيري لخلق الالفاف، واخرج ضريبة النائبة على أثرياء أهل فاس، وشارك في العمران تخطيطا وبناءا.
وقدمت المداخلة الثانية من طرف الدكتورعبد العاطي لحلو رئيس ايكوموس-المغرب، معلنا سروره لتواجده بأحضان حاضرة مسقط رأسه في عرسها التاريخي، متناولا موضوع ” التراث المادي واللامادي لمدينة مكناس”، حيث اعتبر التراث إطلالة مستقبلية واعدة، يجب أن يعامل علميا وأكاديميا، وكاستثمار لخبرات ذات بعد اقتصادي وسياحي، وليس فقط عاطفيا حتى يتيسر نقله إلى الأجيال القادمة، لكونه صوت المدينة المعبر عن تاريخها العميق، مثمنا الدعوة للاحتفال بتراث المدينة في تزامن مع الذكرى العالمية للاحتفال بالتراث، وقد جدد الدعوة إلى عدم إغفال البعد الاقتصادي للاحتفال، واعتماد ورشات الترميم التي دشنها ملك البلاد بكل حيثياتها، كما دعي إلى إنشاء متحف المولى إسماعيل لمدينة مكناس، واحدات مؤسسات بطابع ثقافي، وتشوير المسالك السياحية للمدينة، وخلق متحف افتراضي بباب منصور العلج، وتشجيع وتثمين الصناعات التقليدية للمدينة كمهارات تحمل حضارات تاريخية عميقة تزيد تراث المدينة غنى، وقد وصف مدينة مكناس بكونها مدينة في قرية وقرية في مدينة، مما يفسر حضور العامل البيئي كعنصر من عناصر المكون التراثي للمدينة، كما أن التعريف والتوظيف لتراث المدينة يزداد قوة وفعالية كلما اشتد الانخراط بشكل كامل لكل القوى، وخصوصا الشباب.
وفعلت المداخلة الثالثة من جانب الدكتور عبد الرحيم الزيداني العلوي نقيب الشرفاء العلويين بمكناس، والباحث في تراثها، معبرا عن سعادته لمشاركته في اليوم التاريخي التي تعيشه مكناس تثمينا لتراثها التاريخي، مستهلا كلمته المسطرة بعنوان ” المآثر التاريخية واقع وأفاق”، حيث ذكر مبدئيا أن مكناس ارث تاريخي متنوع المصدر ومتعدد الأزمنة، وتراث إنساني مصنف عالميا، يستوجب العناية والتوظيف بالشروط العالمية المعتمدة كونيا، كما أكد آن أول الواجبات هو الحفاظ على هندسة المعالم كما وجدت بداية وبكل أمانة، حماية من الاندثار وضمانا للخلود، متطرقا إلى ظاهرة طمس معالم المآثر تاريخية التي انتشرت بوجه خاص في الأحياء القديمة بمساجدها وسقاياتها التي فقدت أو تكاد تفقد طابعها وخصائصها الأثرية، وأمست من البنايات التجارية أو المساكن المقتطعة من مساحات أو مرافق القصور السلطانية “الدار الكبيرة” نموذجا، كما أشار إلى واقع المؤسسات الدينية الذي لا يصر الناظرين، كما خصص الحديث عن المدارس المرينية التي أتلفت اغلب معالمها بفعل عوامل طبيعية أو بفعل فاعل.
وتحصينا للدور الثقافي التي اختصت به مكناس، وما كانت تكتنز من ذخائر مخطوطة، جدد سؤال خزانة المسجد الأعظم التي لم يعرف مصير مخطوطاتها، كما نبه إلى عمليات الترميم التي تطمس هوية الأسوار ولا تراعي الخصوصية التاريخية للحقبة التي بنيت فيها، وانفراد أشكالها الهندسية، وقد أعطى مثال سقاية زواغة التي فقدت قصيدتها المكتوبة عند ترميمها سنة 1967، كما دعي إلى ضرورة توظيف المآثر التاريخية ثقافيا وسياحيا لتفعيل دور انخراطها الاقتصادي بتنظيم مشاهد فلكلورية بساحات المدينة، والتعريف بعادات وتقاليد وصناعات أهل المدينة كتراث إنساني يعكس امتداد حضارات متعددة.
وفعلت المداخلة الرابعة من جانب الدكتور فؤاد السرغيني مدير عام وكالة انقاد فاس-مكناس، والساهر على مشروع برنامج تثمين مدينة مكناس العتيقة، معلنا سروره لتواجده بأحضان حاضرة مكناس في عرسها التاريخي، متناولا موضوع ” التأهيل ورد الاعتبار للنسيج التاريخي: مدينة فاس نموذجا”، حيث ذكر بعناية واهتمام عاهل البلاد بتراث المدن العريقة للمملكة، وإشرافه شخصيا على انطلاقة العديد من الاوراش التي تعنى بالمعالم التراثية، وقد قدم عرضا مفصلا بالصورة والتحليل عن مجموعة من التدخلات التي قامت بها الوكالة بمدينة فاس وهمت تراثها المادي، مشيرا أن التراث تجربة إنسانية امتدت على مدى 11قرن من الزمن بحمولة تكتنز التجربة والعادات والتقاليد، وانه من اجل ضمان حضور هدا الإرث التراثي عبر العصور المتتالية وجب تسطير إستراتيجية إصلاح متعددة المداخل، تراعي إزالة المخاطر، وتجدب مشاريع تنموية، وتوظف المادة التراثية، وما محطة 22 أكتوبر 2018 التي توجت باتفاقية خاصة بتثمين تراث مكناس والتي تخص معالجة 54 موقعا بكلفة مالية حددت في 800 مليون درهم إلا إحدى أوجه العناية السامية الرامية إلى العناية بالمدن العريقة ردا لاعتبارها، وصونا لرمزيتها التاريخية.
وتلتها مداخلة الدكتور جمال المعطي مستشار وزير الإسكان، بعنوان “المدينة وتحديات التنمية المستدامة”، وبعد شكره الجهات المنظمة والحضور، أكد أن تنمية التراث هي عملية متعددة الجوانب، لكونها مجال للتفكير في التحديات، ورحلة بحت عن الحكامة الحضارية ومواكبة النمو المستدام، وفرصة لجعل من المدينة فضاء لخلق الثروة، ودعوة جديدة لتغيير وسائل التفكير والتدبير في تخط للنموذج الكلاسيكي، وتبن لمشروع تنموي سياسي ونخبوي مبني على التشاركية، وبأفاق عملية محورها التخطيط والحكامة والإرادة السياسية.
وأخيرا قدم الأستاذ حسن الزعيم رئيس جمعية مكناس الأخضر، المداخلة السادسة بعنوان “الماء بين الندرة والتدبير”، بعدما نوه بمبادرة انعقاد الندوة في أفق انتظام عقد نظيراتها مستقبلا، كمنبر للتعاون والتشاور، ومد جسور التواصل والتقارب بين المهتمين والفاعلين والغيورين، معالجا لإشكالية ندرة المياه عالميا، مزودا مداخلته بمعطيات رقمية، وقد عدد موارد مكناس المائية بكمياتها وطرق استغلالها، معرجا على عوامل مشاكل المياه كسوء التدبير، والفساد، وانعدام الخبرة، كما أعطى حلولا للتفادي أو التقليل من أزمة الماء، وحدد أهم عناصرها في تجميع مياه الأمطار، وتطهير المياه المستعملة، وتجدير ثقافة المياه للتعريف بخطر فقدان الماء وكيفية حماية هده الثروة.
وختاما عبر كل الشخصيات والفعاليات عن شكرها وامتنانها وتبنيها للسؤال المحوري الذي شكل فضاء الحوار حول الرهانات والحدود التي تدور مدار فكرة تنظيم هدا اليوم الإعدادي، في علاقة ودية ونقدية، في آن، مع كل من ساهم في صنع الحدث، ضاربين موعدا لليوم السنوي في 18ابريل المقبل، تخليدا للاحتفال، وتعميقا للخطاب المؤسس للمبادرة والفعل، بسطا لقضية تراث مكناس، وتشخيصا لمتعدد قضاياه الشائكة بالدرس والمعالجة والتفكيك، والإشارة إلى أفاقه لغة، وكتابة، في مقاربة أمام واجب تاريخي من نوع خاص، واجب تمتزج فيه حكمة التوجيهات الملكية، وتتحقق به المصلحة الاقتصادية والسياسية والثقافية.
تحرير الأستاذ إدريس بوسباطة موثق بمكناس.