” المعنـــى ” بقلم ابراهيم المسيح

0

كل من عاش فترة الحجر الصحي، كان يرسم أحلاما خلال النهار ،إذ تبدل عنده النوم يقظة وأكتمل عنده البذر نوما خلا ل رمضان، فصنع السمر بجميع أنواعه  و لأنه أعتقد أن الفترة النهارية قد تطول بفعل تمديد الحجر الصحي ، رفعته أحلام النهار خارج الطوارئ الصحية  وباعتبار الطبع يغلب التطبع فان الحياة الاجتماعية تميل الى التقارب بدل التباعد.
وبسبب اختفاء القاعدة التقليدية التي تفيد” تعشى وتمشى ” فقد أفرزت لنا فترة الحجر الصحي أجساما غليظة وسمينة.
لما وضع لي النادل مشروبي على الطاولة كان يتحدث بشأن الجائحة وعندما التفت نحوي التمست أن يضع القناع على وجهه وليس على عنقه ,  فأجابني بمقولة تفيد السلامة “والستار الله”. لكني قاطعته طالبا منه استعمالها أولا ثم مواصلة حديثه ثانيا , التفوه بالمفردات  والتخاطب بالألفاظ والحكم على على الأشخاص  والأحكام المسبقة بسبب أو بدونه  لدى فئة كبيرة من الناس كسائق التاكسي و النادل و الحرفي..و أخرين لا ينتهي ولا ينتبه  صاحبه أنه دخل مرحلة الثرثرة التي عبرها يدخلك بوابة الخطر، بما ينط من فمه أو من شرارة عينيه إذا كان من المدخنين فبائع الخضر أو السمك في بعض الفضاءات العمومية كالسويقة  تعود على الصراخ بدعوى سكب جرعات لإشهار سلعته أو عند المزاح وفي كلتا الحالتين فالاحتكاك به أو التقرب منه دون الانتباه تتلذذ به كورونا الجائعة .
هو نفسه قد يخلط أو يجمع مابين  ماهو  ديني  وأسطوري علمي أو نقلي، دون القدرة على التمييز بينها كما قد لا يميز أحدهم بين الذرة والجسم و بين الشكل و الجمال , هؤلاء يحفظون عن ظهر قلب بعض السيناريوهات كانت خاطئة أو منقولة أو  مبتدلة.
لذا فإن قشدة بعض التخصصات المعرفية تقسم ظهر هذه” العاميات” و الأفكار الشائعة, فالسوسيلوجيا مثلا أفردت عدة مفاهيم أهمها ” الحذر الايبستمولوجي”   للتمييز بين الشائع  والعلمي لذلك أعتبر أحد السوسيولوجيين الكبار أن الظواهر الإجتماعية أشياء لأجل تجنب ماهو عام وفصل الدارس عن الموضوع المدروس , وإعتبارا لكون جائحة كورونا قد نبهت محركات علماء الإجتماع  كما هو الشأن لدى علماء النفس والتربية  , فقد خصلت بعض الملاحظات على أن المتضررين من الحجر الصحي، هم الأطفال أكثر من غيرهم لتوقيف حركة نشاطهم الحركي والمهاراتي دون إشعار مسبق.
لقد سطع نجم التسول ضمن الظواهر الأكثر انتشارا في هذه الفترة العصيبة ,  فأتجهت نسوة هناك وهناك يطلبن العون بمناسبة” العواشر” والعواشر في ثقافتهم فترة لا تنتهي  فالزمن بين العيدين” عواشر”  وإذا صادفتهم يوم الخميس يذكرنك بليلة الجمعة , وهكذا يحفظون عن ظهر قلب قاموسا يؤثر في القلوب الهشة أو تلك التي تعيش بدون هوية. لقد خاطبني متوسلا في يوم سابق على زمن كورونا “الله يحفظك من أولاد الحرام ”  معتقدا أن دعوته تقي شر هؤلاء الأولاد ، دون أن نعلم ، هل الأولاد المشار إليهم من طينة الإنس أو الجن.
لقد كثر الحديث حول فيروس كورونا في فترة التخفيف أو فترة ما بعد الحجر الصحي لأن أصحابنا” الفهايمية” أضافوا حكايات وأساطير ,  وأعتقد بعضهم أنه عالما بالفطرة وعلمه يقتصر فقط عن كينونة كورونا. فقد غاب الزبون على إثر الحجر الصحي ولذلك أنتظر التاكسي زبونا قد لا يأتي فغاب الكلام لانعدام المخاطب.
إنطلقت  فترة التخفيف التي أنتظرها العادي والبادي بشوق زائد فانقضوا على التقارب وغضوا الطرف عن التباعد , فامتلأت المقاهي والساحات لكن كورونا وهي مختبئة تتمنى المزيد.
فلا سقف محدد للحرية  فقد انتظروا حرية طيلة ثلاثة اشهر كاملة كانت طلبا ملحا  بعد إقامة محلية ،أغلقت فيها الأسر داخل مثلث ينطلق من الغرفة ويحد بالمطبخ  مع خروج مضبوط في الزمان والمكان ,فبشأن” الحرية” ذهب أحد الفلاسفة الفرنسيين الى حد القول بأنه أمتزج بالحرية وكأننا أمام “نظرية صوفية” حين قال “لست أنا العبد ولست السيد أنا الحرية نفسها”.
عانق المواطنون نسيم فترة التخفيف , وتعايشوا بتجاوب غلب الحذر وأستسلم أكثرهم للعفوية، والتعايش وخضعوا للطبع وليس للتطبع وأندفعوا غير ابهين بخطر أو أخطار محتملة.
إن فترة الحجر لا تليها إلا فترة الطين،الذي يتبعه الرطب, ثم السائل الذي يجري بكل ثقة ، ولا سبيل لإعتراض طريقه .

عندما بحثت المدرسة الطبيعية اليونانية في أصل الوجود  لم تخرج نتائجها عن العناصر التالية , الماء والنار واللامتناهي  فتأكد علميا أنه لا بناء ولا بناية بدون ماء كما تبين أن الحروب والصراعات ليست متناهية.
لا يمكن الاستخفاف بفترة التخفيف لأنها فترة إنتقالية وأي محاولة لتجاوزها  قد يؤدي إلى خلل ما ، تماما كالجريح طريح الفراش، و مراحل إسترجاع عافيته بعد نقاهته، ثم حيوته والمرور الى نشاطه اليومي، المهني والعملي والعضلي وهي قنطرة توصلك الى بر الأمان بالفضاءات المختلطة العمومية والرسمية والخدماتية.
ورغم إختلاف دوي الاختصاص فإن الممارسين بالمختبرات يجمعون عن خطورة كورونا وعن سرعة أداءها وعن حبها للتجول على الأسطح. لكن لا أحد يجادل في كونه كائن غير مرغوب فيه ، والرغبة في طرده موزعة عند العالمين و أمنية القاطنين على هذه البسيطة. فهل البحث العلمي والأقنعة  المستعملة وأسلحة الوقاية والحياكة والتباعد كافي لهزم جرافات كورونا؟؟  أو أن القذفات تتطلب التركيز وإستبدال الخطوط الهجومية التي تفرض في آن الوقت خطة محكمة ؟ أعتقد أن ميدان العمليات لازال في حاجة الى  مجهودات ، وأن التطور الإنساني سيكسر أجنحة هذه الكائنات الغريبة إن آجلا أو عاجلا وبكبسولات  صغيرة, لكن التكلفة واردة آو قائمة و أن كل تقدم للبشرية يرفع من تكلفة النجاح والنجاة , ولو تطلب ذلك أرواح المئات من الأدميين أو حتى الآلاف منهم , وكل تقدم في المجتمع يقدف بأموات جدد .
لقد هلك الناس جماعات وفرادى بمرض الطاعون في عهد الخليفة عبيدة بن الجراح و  الخليفة معاد بن جبل على التوالي لكن مع مجيء الخليفة عمر بن العاص كانت الوصفة جاهزة , فخاطب الناس ودعاهم أن يتفرقوا ويتباعدوا حتى لا تجد النار ما يشعلها  فتنطفئي  وحدها و لما استجابوا نجوا جميعا و رفع البلاء .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.