
تملي المتغيرات المتلاحقة التي تشهدها الساحة الدولية في المجالات السياسية و الاقتصادية والفكرية والعلمية والثقافية والابداعية، ضرورة التدقيق في قراءة المفاهيم، والتبصر في مراجعة المصطلحات، والتعمق في فهم مفردات الحضارة الجديدة التي هي بمثابة مفاتيح الولوج إلى المرحلة التاريخية المعاصرة.
إن التنوع الثقافي وازدهار هويات الشعوب، والحوار الهادف بين الاديان
والحضارات، هو الخيار الانساني المفتوح أمام مستقبل البشرية، وهو الامر الذي
سيؤدي بالتتابع وبتراكم التجربة، إلى تعميق الاحترام المتبادل بين الجميع.
إضافة إلى ذلك، إن التسامح أمر لا غنى عنه للعلاقات السلمية في أي مجتمع؛
وعندما يتحول التسامح إلى احترام متبادل، وهي الصفة الأكثر إيجابية، فإن العلاقات ترتقي بشكل واضح ومن ثم فإن الاحترام المتبادل يشكل أساسا للإقامة مجتمع إنساني تعددي. وبعكس الاختلافات الناجمة عن الخيارات الفردية، تحمل الاختلافات الثقافية قدرا من السلطة وتتم عملية تأطيرها وهيكلتها بفعل تجسيدها في نظام المعنى والأهمية المشتركة والمتوارثة تاريخيا في ثقافة من الثقافات؛ ويحمل مفهوم التنوع الثقافي فكرة التعايش بين أكثر من مظهر ثقافي داخل نفس الوسط المجتمعي، وعندما يكون لدى المجتمعات وجود لتعبيرات ثقافية متنوعة فإن ذلك ينعكس في ظهور ديناميات مجتمعية مختلفة بين تلك
الكيانات الثقافية، ومع ذلك فإن مفهوم التنوع الثقافي أصبح يحمل سمة مجتمعية وهي قيمة توجيهية من شأنها أن توفر نوعا من خارطة الطريق للتنظيم الاجتماعي والثقافي والمؤسسي لمجتمعاتنا المعاصرة.
كما أصبح التنوع الثقافي يشمل عدة نواحي في الحياة فلم يقتصر على ثقافات
متعددة منتشرة عبر الدول تتبادل فيما بينها محافظة على خصوصياتها الثقافية بل أصبح هذا التنوع عالمي ويوجه تحت رعاية اليونسكو من خلال الإعلان العالمي بشأن التنوع الثقافي عبر العالم، إذ اعتبرته ;ثراتا مشتركا للإنسانية ، وواجب الحفاظ عليه وتشجيعه عالميا كما اعتبر ضرورة للجنس البشري ، خاصة في ظل العولمة الاقتصادية والسياسية والثقافية لدول العالم التي لم تبقى في معزل في وقتنا الحالي ومستقبلا.
وفي هذا الإطار، يذكر ;كلود ليفي شتراوتس أن الثقافة تأخذ أشكالا متنوعة عبر
الزمان والمكان، ويتجلى هذا التنوع في أصالة وتعدد الهويات المميزة للمجموعات
والمجتمعات التي تتألف منها الإنسانية.
هذا، وأضحى الحق في التنوع الثقافي اليوم قاعدة من قواعد القانون الدولي، وذلك استنادا إلى ميثاق الامم المتحدة والعهود والاتفاقات التي تحكم علاقات التعاون الثقافي بين المجموعات الدولية؛ وينطوي هذا التنوع على عناصر تغذى الميول الإنسانية الفطرية نحو امتلاك أسباب التقدم والرقي بحافز من التنافس الطبيعي وبوازع من التدافع الحضاري.
إن جدلية العالمية والخصوصية مسألة حيوية ستحتل صدارة التفاعلات الثقافية
العالمية، والعالمية الحقيقية لا يمكن أن تتمرإلا في ظل احترام الحق في الاختلاف والحق في التنوع، كما أن الخصوصيات الثقافية لا يمكن أن تشكل اثراء لثقافتنا إلا في ظل الايمان بوجود مبادئ إنسانية مشتركة تتجاوز كل الحدود الجغرافية والثقافية والدينية.
وعوض إلغاء التنوع الثقافي باسم العالمية أو رفض العالمية باسم الخصوصية،
ينبغي الدفاع عن أولوية ما هو مشترك بين الانسانية، فالثقافات والديانات لا تحمل في ذاتها اي تعصب أو نزوع لرفض كرامة الانسان وحقوقه، وفقط توظيفها واستغلالها من طرف الأفراد والجماعات قد يجعلها معيقة لانتشار الوعي بحقيقة وحدة الانسانية وبكونية القيم الإنسانية.
فاطمة لمحرحر، باحثة في الدراسات السياسية والعلاقات الدولية كلية الحقوق فاس.