تطور الحماية القانونية لمنظومة حقوق الإنسا
في الدساتير المغربية تأتي دراسة التطورات القانونية التي عرفتها الحماية الدستورية لحقوق الإنسان بالمغرب، في ظل ظهور مجموعة من الآليات المؤسساتية الداعمة للمنظومة الحقوقية، وانطلاقا كذلك من الضمانات التي سعى من خلالها المغرب حماية حقوق الإنسان، بالموازاة مع التحولات السياسية والتجارب الدستورية التي عاشتها الدول العربية والمغاربية.
وتكمن أهمية هذه الدراسة في استكشاف قدرة المسار الدستوري بعد مرور سنوات ليست بالقليلة على تلبية مطالب المواطنين في التمتع بمزايا الحقوق ومناخ الحريات التي جاء بها دستور 2011، وإن كانت تختلف مساحة تلك الحقوق والحريات.
وبهذا نسعى من خلال هذه الدراسة الإجابة على سؤالين مهمين، ما مدى احترام الدستور المغربي للصكوك الدولية التي تمت المصادقة عليها في إطار الأمم المتحدة؟ وما هي الضمانات الدستورية المؤسساتية وكذا الفعلية على مستوى الواقع المعاش؟
لقد أثرت التحولات والمحطات التاريخية التي شهدها المغرب على مساره كدولة حديثة تؤسس لقواعد إرساء الديمقراطية ودولة القانون وحقوق الإنسان، مرورا بصدور أول دستور للبلاد إلى عقد التسعينات من القرن الماضي؛ حيث جاء الدستور المغربي الأول لسنة 1962 ناصا على مبادئ أساسية تضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، مثل مبدأ مساواة المغاربة أمام القانون ومبدأ عدم رجعية القوانين ومبدأ التعددية الحزبية….وتوالت الدساتير الصادرة بعد ذلك سواء سنة 1970 أو 1972 أو الدستور المعدل سنة 1992، وكذا الدستور المراجع لسنة 1996، حيث نجد أن البنود المتعلقة بمجال الحقوق والحريات لم تعرف تغييرات هامة.
هذا، ونلاحظ أنه في المراجعات الدستورية للسنوات المشار إليها أعلاه هناك تداخل بين أسس النظام الدستوري والحقوق والحريات، كما أن الفصول المخصصة للحقوق المدنية والسياسية لم تتجاوز تسعة فصول، أما بالنسبة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فقد تمت الإشارة إليها في ثلاثة فصول دستورية فقط وهي حق المواطنين في التربية والشغل والحق في الإضراب والملكية الخاصة.
وفي ذات المنحى ورغم التعديلات التي أسفرت عنها الصيغة النهائية لدستور سنة 1996، فإن قائمة الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ظلت ناقصة مقارنة بدساتير الكثير من الدول وحتى بالتعهدات الدولية التي يلتزم بها المغرب بمقتضى الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، وأخص بالذكر هنا العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وفي نفس الإطار لبد أن نشير أن عقد التسعينات رغبة من لدن السلطة السياسية في تبني عدة إصلاحات حقوقية، حيث أدخلت إصلاحات على مدونة الانتخابات وتأسيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان؛ وسواء من الناحية القانونية أو المؤسساتية فقد شهدت بداية الألفية مجموعة من الإصلاحات السياسية والاجتماعية والحقوقية مثل، إحداث المعهد الملكي للثقافة الامازيغية سنة 2001 واعتماد التمييز الإيجابي في الانتخابات التشريعية لسنة 2002 وإقرار مدونة الأسرة سنة 2004، وإحداث المجلس الأعلى للسمعي البصري سنة 2003، وإقرار قانون جديد للأحزاب.
أما من الناحية المؤسساتية، فقد تم تشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة سنة 2003، بهدف طي صفحة الماضي وتعويض ضحايا انتهاكات ما عرف إعلاميا بسنوات الرصاص، وإن إحداث هذه الهيئة من حيث المهمة الموكولة إليها شكلت مسار تسوية غير قضائية واعتبرت بمثابة دعامة لدولة الحق والقانون؛ هذا وتم في نفس المرحلة إدخال إصلاحات على المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان نحو مزيد من الاستقلالية والانسجام مع مبادئ باريس وتأسيس ديوان المظالم، كما صادق المغرب على باقي معاهدات حقوق الإنسان. غير أن هذه الإصلاحات بقيت محدودة وهشة وقابلة للتراجع عنها.
وتبعا لذلك، انعكست الشروط التاريخية وعمق المطالب الدستورية والخلفيات الإقليمية، التي أطرت مسار الحماية الدستورية لحقوق الإنسان على طبيعة الوثيقة الدستورية لسنة 2011، بتكريس هذه الأخير لحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا.
إن تحليل محتوى الحقوق والحريات التي يفترض أن يتمتع بها المواطن المغربي، من خلال ما جاء في ثنايا دستور 2011 وبعد تفكيك بعض فصوله، يدفعنا للقول بأنه لا خلاف على أن الدستور المغربي لسنة 2011، نص على مجموعة من الحقوق والحريات حيث تم تخصيص الباب الثاني كاملا للحقوق والحريات وفيه تم سرد مختلف وأنواع الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية.
إلى جانب ذلك، نجد أن الوثيقة الدستورية حملت في طياتها جملة من الامتيازات لصالح أفراد المجتمع وهيئاته، أبرزها ما تضمنه الفصل 12 و13 و15 من الدستور.
إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا لا يتعلق بمدى اتساع مجال هذه الحريات والحقوق أو تقلصها كما يراها البعض، ولا حتى مسألة ذكرها على مستوى أسمى قانون، بل الحقيقة أن السؤال الجوهري هو ذلك المرتبط بالضمانات التي منحها الدستور؟ بعدما جعلها مبهمة ومطاطة تحتمل أكثر من معنى. وهذا ما يتضح من التدقيق في محتويات الفصول وربطها ببعضها، فبعدما أسهبت فصول عدة في ذكر الحقوق والحريات جاء الفصل 31 على سبيل المثال، ليفرغها أي التزامات أو ضمانات حقيقية، عندما قصر مسؤولية الدولة على تيسير الحصول عليها بدلا من منحها كواجبات تقع على عاتق الدولة تجاه مواطنيها.
وعلى مستوى آخر، يطرح سؤال التصورات التي منحت لهذه الحقوق، نجد أن دستور 2011 يشوبه نوع من التناقض، حيث ينص تصدير الدستور بأن المملكة المغربي تؤكد تشبتها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا، أي أن المدى الذي يرسمه الدستور لحقوق الإنسان هو العالمية، غير أنه بمراجعة فصول الدستور نجده قلص من هذا المدى بعدما ربط هذه الحقوق بمسألة الخصوصية والهوية وثوابت المملكة.
ويظهر من خلال ما سبق، أنه على الرغم من التقدم المعياري للوثيقة الدستورية فإن المشرع ملزم بإعادة النظر في نصوص القوانين العادية قصد ملاءمتها مع فصول الدستور والعمل على إخراج باقي القوانين التنظيمية.
غير أن الرهان الحقيقي اليوم، هو تفعيل المقتضيات الدستورية وخاصة الحقوقية المتضمنة في دستور 2011 وتحويلها إلى إجراءات وتدابير ملموسة تتيح للمواطن تلمس آثارها في مختلف نواحي الحياة اليومية وفي دواليب المؤسسات والإدارات. وهذا الرهان يتطلب انخراطا كبيرا من لدن مختلف الفاعلين ومكونات الدولة.
وختاما، نستطيع القول أن دستور 2011 يضع المغرب في مفترق طرق بسبب ما يسود في المعترك الاجتماعي والسياسي المغربي، نتيجة التحولات العميقة التي يشهدها على أكثر من صعيد، في حالة من التراجع أو المواجهة أو الإصلاح، ولئن كانت كل هذه الاختيارات صعبة ومكلفة في ظل كل المتغيرات الدولية المقبلة.
المراجع المعتمدة:
– توفيق عبد الصادق، “قضايا الحقوق والحريات في الدساتير العربية الجديدة: دراسة حالة المغرب وتونس”، رواق عربي، مارس 2020.
– الحسن طارق، ” الدستور المغربي: المستجدات وحصيلة التفعيل 2011-2017″، المنظمة العربية للقانون الدستوري.
– محمد نبيل ملين، فكرة الدستور في المغرب وثائق ونصوص (1901-2011)، مركز جاك بارك.
فاطمة لمحرحر: دكتورة في الدراسات السياسية والقانون العام
كلية الحقوق فاس