منذ أن وجد الأنسان على هذه الأرض وهو في حركة دؤوبة ونشاط جاد في بيئته لتأكيد ذاته وتأمين سبل حياته ، وقد تمثل ذلك في صيغة تفاعل إتخدت في كثير من الأحيان شكل صراع مرير لتحقيق ديمومة الوجود والبقاء، سواء في ترويض البيئة لمشيئته أو في التكيف والأنصياع لمقتضياتها .
وعند تتبع أشكال ذلك الصراع نجد أن الفن كان من بين أبرز الوسائل التي تسلح بها في مواجهة البيئة وتحقيق أغراضه منها. حيث تعد رسوم الكهوف من عصور ماقبل التاريخ أول الشواهد المهمة في تسخير الفن بطريقة سحريه ليكون سبيلاً للأنسان في نيل نصيبه من الغذاء والبقاء .
فلا نجد أنساناً يستطيع التخلص كلية من ضغط البيئة أو من الروابط الطبيعية التي تشدهُ اليها منذ أقدم العصور . هكذا يبدو أن الفن هو إدراك بشري يتناول مشاهد الطبيعة ويتمثلها ويصوغها لتحقيق غايات الأنسان .
عندها يكون الفن هو إعادة توجيه للبيئة أو التكييف معها حيث يعيد بالفن إنتاج الواقع (الطبيعي والأجتماعي) ليستطيع تأمل ذاته في العالم الذي أبدع فيه .
أما ماهية الفن والإبداع جاءت لتؤكد على الجانب الأنفعالي للفنان الذي يتقرر على وفق تأثير البيئة الأجتماعية التي يعيش في وسطها ، فكلما عكس الفنان الأتجاهات الأساسية لمجتمعه ، وكلما كان أكثر إحساساً بنفوذها ، يكون عمله الأبداعي أرفع قيمة . “فالواقــع الموضوعي إذن يمد الإنسان من خلال الملاحظات والإنطباعـات وبمعونة الذاكـــــــرة الوجدانية بالمواد اللازمة لإبداع الأخيلة الفنية .
ويحوّل الفنــان المـادة التي يتناولـهـا مـن الحيـاة طبقـاً لنظرتـه الطبقيـة ولفهمـه للقوانيــن المتحكمـــــــة في الواقع الموضوعي”. لهذا فالفن يجد ذاته في حالة تفاعل الإنسان مع واقعه ويتجلىّ بشتىّ الأشكال التي يعبر عنها في علم الجمال بمقولات الجمال لتمثل التفسير والتصميم النظري لطابع تفاعل الإنسان مع بيئته ، وتكشف في ذات الوقت عن عوامل وظيفة الفن الإجتماعية.
من هذا المنطلق نجد الفنان التشكيلي المغربي محمد ميكو يبدع و يبتكر في الواقع من خلال خوضه تجربة تشكيلية جديدة برؤية متجددة موضوعها ” رسالة من كوكب الأرض إلى كل البشر ” يتصور فيها الخطر المحدق الذي بات يعيشه هذا الفضاء الكوني من جراء مجموعة من المخاطر التي باتت تشكل خطرا على إستقرار البشرية فوق عروشه المائية و الترابية .
لقد أبدع الفنان ميكو هذه الرؤية التي تجمع بين الواقع و الخيال الواقعي ضمن لوحة تشكيلية بكل ألوان الحياة و الفناء بحيث إختزل مخاطر تلوث بيئة الأرض على مستوى طبيعتها و مكوناتها الأساس الماء – الهواء – التراب – النبات – الكائن الحي …. و هي مكونات تشكل عالم الكرة الأرضية بحيث تصورها داخل واقع مليئ بناقوس المخاطر المدمرة المتجلية في ظواهر الحروب و النزاعات البشرية و التطور العلمي و الصناعي الملوث ، و الاحتباس الحراري ، و الاستغلال المفرط و اللاعقلاني للموارد الطبيعية ، و قلة الوعي بأهمية الطبيعة و دورها في صناعة بيئة سليمة .
لقد إستوحى ميكو نظرة لواقع حياتنا اليوم و علاقته بإستقرار منظومة الأرض من تتبعه لأنشطة مؤتمر كوب 22 حول المناخ المنعقد مؤخرا بمراكش ، و خصوصا الرسالة الملكية السامية لجلالة الملك محمد السادس حول واقع المناخ في ظل التحديات التي أصبح مصدرها الإنسان و ضحيتها الإنسان و كوكبه الأرض ، و هو واقع مهدد لإستقرار البشرية بفعل الهيمنة و السيطرة المفرطة للعقل الانساني على محيط و فضاء الكرة الأرضية دون وعي بالنتائج الكارثية التي قد تؤثر بشكل سلبي على علاقته بفضائه الكوني .
ميكو حاول من خلال تجليات هاته اللوحة الفنية الإشارة إلى الوضع المأساوي حاضرا و مستقبلا بفعل تغليب منطق المصلحة و المنفعة الإنسية على حساب الطبيعة و هو ما إعتبره ميكو عنفا مدمرا ينم عن قلة الوعي بأهمية و دور الأرض في حياتنا ، فألوان اللوحة تعكس ذلك من خلال زركشتها بالأحمر و الأسود و هي ألوان تشاؤم و نظرة مزعجة ، غير أنه ضمنها اللون الأبيض و الأخضر و الأزرق و البنفسجي في إشارة منه لإمكانية المصالحة عبر خارطة طريق أساسها مراجعة الإنسان لواقع علاقته ببيئة الأرض و تنازله عن مشروعه العنيف المتمثل في سعيه و رغبته لأن يكون سيدا و مالكا لكوكب الأرض بالعنف الملوث .
و يختم ميكو تصولاه الفني لواقع الحياة بكوكب الأرض برسالة مؤثرة مفادها : ” من غير المعقول أن يكون البشر المكرم بأنعم النعم و هي العقل … عقلا مدمرا لحياته ووجوده و كونه بعقل الذي هو رمز وعيه و عنوان إنسانيته و عفويته الخيرة … فهل فعلا نحن خيرون بطبعنا حقا أم أننا مجرد كائنات تتظاهر بذلك ” يضيف الفنان محمد ميكو في كلمة أخيرة طبعت حديث لوحته التشكلية : ” يجب أن نبرهن بعقلنا أننا لسنا كائنات خلقت لتدمير وجودها بذاتها … بل لنا القدرة على حماية حياتنا ، و هو حلم لم يتحقق بعد و لا بد أن يتحقق إذا كنا فعلا كائنات عاقلة ” .
عبد الاله المهدبة
السابق بوست