بقلم : عزيز لعويــسي
ما أن تحركت عجلات الحافلات الجديدة بالدار البيضاء بعد طول انتظار، حتى امتدت إلى بعضها جائحة التخريب من قبل بعض المراهقين المتهورين والعابثين، وهو سلوك غير متمدن لايمكن تفسيره إلا بقلة “الترابي”، لايمكن القبول به أو التطبيع معه، مهما كان التبرير أو التفسير، وإذا كان البعض ربط ما حدث وما قد يحدث من تصرفات مماثلة، بمبررات الفقر وما يرتبط به من هشاشة وتهميش وإقصاء، فهي مبررات لا يمكن تبنيها أو تزكيتها، لأن الفقر لم يكن يوما دافعا إلى الانحطاط والفوضى والتخريب، وإلا لكانت شرائح واسعة من فقراء وبسطاء المغرب يمارسون سلطة العبث والتخريب.
ما يحدث هنا وهناك من أفعال تخريبية تطال بالأساس الممتلكات ذات النفع العام من حافلات وقطارات وتجهيزات رياضية وملاعب قرب وفضاءات خضراء ومدارس …، هي أفعال وممارسات تسائل بالأساس عددا من مؤسسات التنشئة الاجتماعية التي تراجعت عن أدوارها التربوية والتأطيرية، وعلى رأسها “الأسرة” و”المدرسة” مرورا بدور الشباب والثقافة والرياضية والأحزاب السياسية ووسائل الإعلام وجمعيات المجتمع المدني وغيرها، كما تسائل الأمن والقضاء وآليات الزجر والعقاب، وتراجع أدوار هذه المؤسسات أو إفلاس بعضها، ليس فقط يترك فراغات تربوية تفرز تربة خصبة قادرة على إنتاج كل مظاهر التهور وأشكال الانحراف المجتمعي، في ظل غياب الضابط الأسري والقيمي، بل وقد تشكل قوة دافعة في اتجاه “الهدر المدرسي” الذي بات اليوم بمثابة “المرض الصامت” الذي ينخر جسد المجتمع، في ظل مغادرة عشرات الآلاف من التلاميذ لحجرات الدراسة كل موسم دراسي، ويكفي الإشارة في هذا الإطار، إلى مغادرة ما يزيد عن 300 ألف تلميذ(ة) لأسوار المدرسة سنة 2019 حسب إحصائيات رسمية، وهذا الواقع المقلق يضعنا أمام جيل صاعد من الناشئة خارج دوائر التربية والتأطير والمواكبة والتتبـع.
تخريب زجاج حافلة أو نافذة قطار، أو إتلاف تجهيزات رياضية بمناسبة إجراء مباراة في كرة القدم، أو العبث بتجهيزات مدارس أو ملاعب قرب أو فضاءات خضراء …، هي ممارسات من ضمن أخرى، لايمكن اختزالها في حدود الكسر أو التخريب، ولايمكن إلا أن نستحضر كلفتها الاقتصادية والتنموية والأمنية، لأنها قد تقوي الانطباع لدى البعض (المستثمرون مثلا) أن الأوضاع غير آمنة وغير مستقرة لاتشجع على المبادرة ولا تحفز على الاستثمار، كما تقوي الإحساس لدى المواطن بانعدام شروط الأمن في ظل تمدد مساحات العبث والتهـور والتسيب والانحراف، فضلا عما لهذه الممارسات جميعها، من آثار مباشرة على المال العام (هدر المال العام) ومن عرقلة لكل مجهود رسمي في إدراك التنمية والنهــوض، ومن إجهاز على حق الآخر في التمتع والاستفادة من خدمات عمومية تتوفر فيها شروط الراحة والأريحية والكرامة.
إذا ما وسعنا من زاوية الرؤية، نرى أن “جائحة التخريب” باتت تتجاوز عتبات العبث بالممتلكات العامة والخاصة، وتحضر بقوة في كل ممارسة تعطل عجلات التنمية وتكبح جماح النهوض والارتقاء، في كل الأيادي المتهورة التي تعبث بالمال العام بدون حسيب أو رقيب، في كل من حول ويحول السياسة إلى مأوى للعابثين والأنانيين والوصوليين والمتملقين، في كل من جعل من الأحزاب السياسية دكاكين آمنة لبعض صناع البؤس والفشل والانحطاط، في كل الممارسات التي تكرس ثقافة التفاهة والسخافة وتحط من مستوى القيم والأذواق، في كل التصرفات “غير المواطنة” التي تطبع مع الفساد وتلهث وراء الريـع وتعمق بؤر الإحساس بانعدام المساواة والعدالة الاجتماعية، في كل سلوك منحط حول الوطن إلى “بقرة حلوب” لا تصلح إلا للحلب والسلب والنهب، في كل المجرمين والمنحرفين الذين يعمقون الإحساس بانعدام الأمن، في كل أعداء التنمية والإصلاح، في كل من يضع “العصا فالرويضة” أمام الوطن، ويحرمه من أية فرصه للتحرك والنهوض وإدراك النماء والازدهار…
فهـؤلاء جميعا كلهم “مخربون” من الدرجة الأولى أو مخربين “كبار” ضررهم على الوطن أقوى وأخطر من “المخربين الصغار” الذين لا تتجاوز سلطتهم حدود تكسير زجاج نافذة حافلة أو قطار أو كراسي في ملاعب رياضية، ولابديل اليوم ونحن على مشارف “نموذج تنموي جديد”، إلا أن تتحمل كافة مؤسسات التنشئة الاجتماعية أدوارها الكاملة في التربية والتعليم والتأطير، من أجل الإسهام الفردي والجماعي في صناعة عقول “نظيفة” و”مواطنة” و”مسؤولة” و”ملتزمة” تكون سندا للوطن في السراء كما في الضراء، مع الرهان على التعامل الصارم مع أية ممارسة “تخريبية” مهما كان وقعها أو حجمها أو تأثيرها، لكبح جماح “المخربين” الصغار والكبار على حد سـواء، لأن البعض “كاموني .. إلى ما تحكش ما يعطيش الريحة”، وعليه لامناص من “الحكان” ثم “الحكان” إذا ما أردنا تخليص جسد الوطن من “أوساخ” طال أمدها …