
رِهَاناتُ الطريق
رُكْنٌ ركينٌ في استدامة المدينة، أيِّ مدينة، مادامت هي الحاضنة لكل تساكن وتعايش، والباعثة على كل تمدن وتحضر، تتوافد عليها أطيافٌ شتَّى، مُلتمسة الاستقرار والأمان، والاستفادة من مختلف الخِدْمات.
وفي تصميم المدينة تبرُز الشوارع والدروب، كما تتشعب في جسد الإنسان الأنسجة والعروق، هي شرايين الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وسبيل تنقل وتواصل، وهي في الآن ذاته سببُ سعادة ونجْوَى، أو مصدر خطورة وبلْوَى.
ورهانات الطريق أن تُيسِّر قضاءَ الحاجات، وتُؤمِّنَ السلامة لمختلِف الفئات
وقد مَرَّ على المدينة رَدَحٌ من الزمان مَنحتْ فيه الأوْلوية للسيارات تجوبُ الشوارع وتصلُ إلى عُمْق الحارات، فكانت لها خطورتُها في ارتفاع حصيلة الإصابات، وتزايد الانبعاثات، إلى أن تنبَّه الإنسان إلى أنه بغروره واندفاعه كان كمن يسعى إلى حتفه بظلفه، وبأخطائه سَرَّعَ التغيرات المناخية، ورفع درجة حرارة كوكبه، وجعل مستقبل الأرض وحياة الكائنات عليها مُهدَّدة بالدمار والانقراض.
وقد أن الأوان لتستخلص المدينة الدروسَ والعِبَر مما طرأ من تحولاتٍ على مَرِّ الزمَن.
تفطنت إلى ذلك مُدُنٌ في شمال الأرض فجعلت وُكْدَها وغايتَها تقليصَ حضور السيارات، وإعطاءَ الأولوية في تصميم المدينة ،وتدبير تنقلاتها إلى النقل الحضري والدراجين والمشاة.
فصرْتَ ترى النقل الحضري يتنوعُ ويتكاملُ بين ترامواي، وحافلةٍ ذاتِ مستوى عال في الخدمة، وحافلاتٍ كهربائية، تَجُوبُ مختلِفَ أرجاء المدينة في مسارات مستقلة بدقةٍ مُتناهية، وتُمكِّنُ مُستعملها من الوصول إلى هدفه في زمن قياسي بتذكرةٍ واحدةٍ ذكية، ثم القطار عالي الجودة، وفائق السرعة في الانتقال من مدينة إلى أخرى، ومن قطر إلى آخر، مُغرِياً بالإقبال عليه كل الفئات الاجتماعية، مما جعل عُمدة مدينةٍ رائدةٍ يُنوِّهُ بذلك قائلاً: “مِعْيارُ تَقدُّمِ بَلَدٍ ما ليس في أن يمتلك فقراؤُه سيارات، ولكن في أن يستعمل أغنياؤه النقل الحضري العمومي”
أما الدراجون من مستعملي ذوات العجلتين أو الثلاث فأعدادُهم مُتزايدة، يتنقلون في مسالكَ خاصة، ويرقى الأمرُ إلى تنافس المدن في توفير دراجاتٍ في العديد من المحطات تُوضَعُ رَهْنَ إشارة المُشتركين للتنقل بها لقضاء أغراضهم، ورَكْنِهَا حيث يقصدون، دون هاجس اقتناءٍ، ولا صيانةٍ، ولا حراسة.
وأما أمْرُ المُشاةِ فشأنٌ آخر، ذلك أنهم يَحْظَوْن بكامل العناية وموفور الاهتمام، فمساراتُهم مُحْتفَى بها أيَّما احتفاء، وهي بما يُوصِلُ إليها من ولوجيات، وما يتوفر لها من صيانةٍ وخُلُوٍّ من الأخطار، وما يُؤثثها من أزهار وأشجار، تُغري الكثيرين بالتنقل عبْرها بمتعة وانشراح.
هذه المواصفاتُ ليست تعبيراً عن أحلام، ولا ضرباً من الخيال، وإنما هي تقريبٌ لما حققته مُدن، وما تُرَاهِنُ على بلوغه والوصول إلى تعميمه، في سياق تحدِّي تحقيق المدينة المستدامة، شعار العصر، التي يُصِرُّ المُنتظم الدولي على جعلها فضاءً للتعايش، وإطاراً لتنزيل أهداف التنمية الستدامة.
والمدينة المغربية أيا كان حجمُها وموقعُها مَدْعوة إلى الاشتغال بهذه الرؤية، والتخطيط لتجاوز مدينةٍ تُوَسِّعُ شوارعَها لتصير حلبة للسيارات، وما يُسْفِرُ عنه التنافسُ بيْنها من حوادثَ وآفات، إلى مدينة للنقل العمومي والدراجين والمشاة، ففي ذلك تنقية للأجواء، ومُتعة للسكان والسياح، وإنقاذٌ للأرواح.
همســة صادحـــة
لِلْمُتحفِّزين للوليمة، المُراهنين على الفوز بالغنيمة، اتقوا الله في هذا الوطن، واصدُقوه في القول والعمل، كُفُّوا ألسنتكم عن التمويه، وأطماعكم عن اقتناص الريع، واذكروا أن المسؤولية أمانة، وهي عند الحساب مذلة وندامة، وهي لا تدوم، فلكل من الناس قَدَرٌ محتوم، وخير الناس من تشبع بالقيم، واستخلص من التجارب حصافة الرأي، وسديدَ الْحِكَم.
بالأمس تأججت في الآباء والأجداد جذوة الوطن، فألهمت الزهد في المال، والتضحية بالأرواح في سبيل الحرية والانعتاق، وأسلموا المشعل للأبناء، فلتكن المراهنة على الزهد في الذات، وصناعة الأمجاد.
وفي أوطان أخرى أَلِمَ الناس لما كان عليه الحال من فقر وخصاص، وتخلف وضياع، فعولوا على الإنسان، وراهنوا عليه مصدر الإعجاز، عماد النماء، فكان لكل بلد طامح ما أراد.
فهذه سنغافورة بكى رئيسها في البدء من تخلفٍ ويبابٍ وإمْلاق، وهي اليوم مدينةٌ في حديقة، يقصدُها ملايين السياح، ينعم أهلها بالعلم والرخاء وينافس اقتصادها طليعة البلدان.
وتلك الصين إلى عقودٍ قريبةٍ كانت كأيها البلدان، اعتمدت لغتها لا لغةَ غيرها وراهنتْ على الإنسان فيها فجاءتْ عطاءاتها تَتْرَى: تقدماً في العلم والبحث والاختراع، وعبقريةً في الصناعة والإنتاج، تغزو أسواق البلدان والقارات، وازدهاراً في الاقتصاد، واستقلاليةً في العملة والقرار، وتنازعاً للسيادة والريادة مع أقوى البلدان، وفي وقتٍ تحسُبُ فيه بعضُ البلدان ألفَ حساب لجسر معدودِ الكيلومترات، تُعلنُ الصينُ عن الوصل بين مدينتيْن بجسر يمتد على أزيدَ من خمسين من الكيلومترات، وتُنافسُ غيرها في الوصول إلى علاج لِعَصِيِّ الأدْوَاء، وفي إنتاج لقاحٍ يُنقذ البشريةَ من شَرِّ الآفات.
وعَوْدَةٌ للمراهنين على الريع والغنيمة، الباحثين عن أصحاب المال والجاه والعشيرة، أُوبُوا إلى ضمائركم، وراقبوا الله في أوطانكم، والتمِسُوا التغيير والتدارك في طليعةِ المستنيرين بالعلم، المتطلعين إلى الإصلاح، فعسى أن يتبدل الحال من مُراوَحَة الخُطى إلى انطلاقةٍ تَجِدُّ ولا تتوانى، وعزمٍ يشتدُّ ويقْوَى، ولا يخُورُ ولا يَبْلَى
التعليمُ وتحدياتُ المستقبل
دَفْقُ المعلوماتِ والمستجدات، وتسارُعُ التغيراتِ والتحوُّلات التي تزايدتْ مع إطلالة القرن الحادي والعشرين تضعُ الإنسانية أمام تحدياتٍ غير مسبوقة، فالْعِلمُ بنسبةٍ عاليةٍ يتطور، والعالَمُ بوتيرةٍ مُتسارعةٍ يتغيَّر، مِهَنٌ تختفي، وَمَعَارفُ تُتجاوَز، تقنياتٌ تُستحدَث، ومهاراتٌ تُسْتَجَدّ.
والتحدِّي الكبير يَكْمُنُ في أنك لن تَحْصُلَ في المستوى المنشود على مُخَطِّطٍ ولا عالِم ولا خبير، ولا مهندس ولا رائدٍ ولا طبيب، إذا لم تتوفرْ على مُرَبٍّ كُفْءٍ، ومُدرِّس قدير.
وهُنا مَرْبِطُ الْفَرَس
فإذا كان الذي يُقْبِلُ ـ عندك ـ على مهنة التدريس مَنْ لا مهنة له، وكنتَ تتعاقدُ معه بصورةٍ مباشرةٍ على العمل، وتستهدفُهُ بالزَّجْر إذا طالبَ واعْتصم، فاعْلَمْ أنك تسيرُ في الطريق الخطإ.
إنما التعليمُ منارةٌ للعقول، ورافعةٌ للأمم، فمن عُنِيَ به وأضفى عليه الاعتبار كشف له اللآلئ، وفَجَّرَ لديْهِ العبقريات، ومن استهان به وخذل أهله قعد به، وأبقى عليه في الظُّلُمات.
والبدْءُ يكون برفع شأن التعليم، وجعله أولى الأولويات، ورفع قدر أهله حتى يكونوا في صدارة ذوي الخِبْرَات، وعندها لن يُقْبِلَ على التعليم، ولن يُقْبَلَ فيه إلا من كان ذا مَوْهبةٍ وقابليةٍ وشغفٍ واستعداد.
ولا مجال لإلْحَاقٍ مباشر، فالموهبةُ ينبغي أن تُصْقَل، والقابليةُ ينبغي أن تُتَعَهَّد، وساعتها سيصيرُ مُمْتهنُو التعليم يُمثلون الصفوة والنخبة، وسيخضعون لتعميق الخبرةِ في اللغة كأداةٍ للتواصل والتبليغ، وفي البيداغوجيا كأسلوب للتكوين، والسيكولوجيا كمرجعيةٍ لِسَبْرِ نفوس المتعلمين، والحث على تفريد التعليم، والعمل بروح الفريق، وموادِّ التخصُّص كمعارفَ وعوالمَ تُرْتاَدُ وتُوَظَّف، ثم يُعَوَّدُون على تكوين مستمر، وقدرةٍ على استعمالِ جديدِ التقنيات، والتكيٌّفِ مع طارئ المُسْتجدات، والتمرُّسِ بحلِّ المُشكلات، وبِتعلُّمٍ ذاتي يدأبُون عليه، يَنقلون مهاراتِه إلى المتعلمين، ويُكْسِبونهم آلياتِهِ وطرائقَه.
والصيْرورَةٌ تُنبئُ عن غدٍ حافلٍ بالتحوُّلات والتحديات، فمن تحسَّبَ لها وركبَ مَوْجةَ الإعدادِ لها ظفرَ وفاز، ومَنْ أهمْلها وتغافل عنها خسر وخاب.
وادي الجواهر يستغيث
ألا هُبُّوا لنجدته حتى لا يضيع
ينطلق النهر من منبعه صافياً رقراقاً، عذباً زُلالا، وفي مساره يكتظ أوْحَالا، وعند مَصبِّه يَقتلُ الأسْماكَ
تَغنَّى ببهائه الشعراء، وهام بِمَرَابِعه المتنزهون في خيلاء، وتدفقت مياهه على بحيرة جنان السبيل في تدافع وانسياب.
ارْتوَتْ من نَمِيرِه الدُّورُ والرياض، وازدانتْ بِرُوَائه العرَصَاتُ والجِنان.
وها هو الطرْفُ يَرْتدُّ حَسِيراً لما حاقَ به اليومَ من تلوُّثٍ وإهمال، وما شابَ مَجْراهُ من عَفَنٍ واكْتئاب.
ولكنَّ الْهِمَمَ لن تستكينَ إلى تغافُل وتواكُل، ولن تتوانى عن تعبئةٍ وتواصُل.
ـ فثمة بقايا حَفْر وبناء يُلقَى بها على ضفتيْه، فلْتتحركْ آلياتُ الإزاحة، ولْتُفعَّلْ مُبادراتُ الزجْر والمُؤاخذة، ولْيعْلَمِ الجميعُ أن ثمة حَزْماً ومُراقبة.
ـ وثمة تَدفُّقٌ للعوادم يتعيَّنُ تتبعُها وتجفيفُها من المصادر، في السَّكناتِ والمَزارعِ والمصانع.
ـ وهناك مقذوفاتٌ يكتظ بها النهر وتُسيء إليه في تدفقه، فلتتحقق التعبئة لتنقيته، ليستردَّ أَلَقَهُ وعافيتَه.
هذا على مستوى إماطة الأذى، وهو جهادٌ أصغر.
ويبقى العملُ الأجْدى والجهادُ الأكبر مُتمثلا ًفي العناية بِعُدْوَتَيْ الوادي تشجيراً وتأثيثاً بالخُضرة والجمال، ففي ذلك إمتاعٌ وإغراءٌ بالفُسْحة والتَّجوال، على ضفافِ نهرٍ دافقٍ مِعطاء.
ونَبْتةٌ طُفيليَّةٌ مُتغَوِّلةٌ مُكتسحة، احتارَ في مكافحتها الباحثون، وفي استئصالها المزارعون، تأكَّدَ أن وقوعَها تحت الظلال إيذانٌ لها بالانحسار، وأن إبادتها ليست بالمحال، إذا تعبأ لها الجميع في كل آن.
فلْتُسلَّطِ الأضواءُ على نهر دافق بالحياة، غامِر بعذب المياه، ولتتضافرْ جهودُ الجميع لتنقيةٍ وصيانةٍ وتشجير، ففي ذلك مُتعة أيُّ مُتعة لكل زائرٍ ومُقيم.
بِأيْدينَا نُمِيطُ الأذى عن وَادِينَا
شعارٌ يرفعه البيئيون أنهم ـ بعد غُرَّةِ عيد الفطر ـ له مُفعِّلون، وفي آحَادٍ مُتتالية له يتعبأون، ويُعبئون
فالوادي مَرْجعية فاس، وَسِرُّ تَمَوْقُعِها، وعليه أُقيمَتْ عُدْوَةُ الأندلس، ثم عُدْوَةُ القرويِّين، في نشأتها وماضيها.
والنهرُ ينطلق من منابعه عذباً نميراً زاخراً باللآلئ، ولكنه من أسفٍ ينتهي عند مَصَابِّه بنقيض الجواهر.
وأنتَ تتابعُ مَسارَهُ ومَجْراه، من منابعهِ برأس الماء وعين سند وعين السمن وغيرها عَبْر الضويات، وعين الطيور والدكارات، وشارع السعديين، والقصر المنيف، وباب بوجات، ثم بحيرة جنان السبيل حيث تنفُقُ الأسْماك إعلاناً عن بلوغ التلوث ذروته ومُنتهاه، لا تملك إلا أن ترثيَ لما آل إليه حال نهر طالما تغنى به الشعراء، وتوافد على مرابعه ـ من أهل فاس ـ البسطاء والوجهاء.
ولم يَعُدْ سِرّاً أن ثمة بقايا بناء يُلْقَى بها على ضفتيْه، وأن هناك مُهملاتٍ يُتَخَلَّصُ منها في النهر، وثالثة الأثافي مياه عادمة تنساب إليه، وتتدفق عليه في لامبالاةٍ وإهمال، تنضاف إلى ذلك حشائشُ تتسيَّدُها وتطغى عليها نبتة (بيستيا) الطفيلية المتغولة، الْمُهدِّدةُ بمزيد من الانتشار والاكتساح.
ومكافحةُ كل ذلك ليستْ بالأمر المُحال، وإن كان لم يَعُدْ سِرّاً أنه كلما ترددتْ صيْحةٌ وكان استِنْجاد، الْتأَمَ الجمعُ وكان التداولُ والتواصي، ليصيرَ الأمْرُ بالبال.
ألا قد نَفِدَ الصَّبْرُ وبلغ التلوُّثُ مَدَاه، فلْينْخرط الجميعُ في إماطةِ الأذى الذي لَحِقَ النهْرَ وأساء إلى مَجْراه.
وَلْتُحرٍّكْ المؤسساتُ التي تمتلك الجرافات آلياتِها لتكسَحَ البقايا المتراكمة على جنبات الوادي، ولْتُفعَّلْ معها مبادراتُ الزجر ودورياتُ المراقبة.
ولْتُباشِر المصالحُ المعنيةُ بالمياهِ العادمةِ تَتبُّعَ مصادرها وتجفيفها من مآتِيها.
ولْتُفعَّلْ همة الشباب لتنقية الوادي، ومكافحة الاكتساح العشوائي.
ولْتحضُر المصالحُ المعنية بالتشجير لِتُعيدَ إلى جنبات النهر اخضراره وظلاله، وإلى ضفافه متنزهاته ومرابعه.
ولْيَعُدْ للنهر ألقُه وصفاءُ مجراه، وأُنْسُه وبهاه، ولتستقبل ضِفتاهُ عرائسَ الْمُرُوج، المُتَوَّجة بأكاليل الزهور، ولْتصْدحْ على جنبات الوادي أغاني الأنس والحبور، وَلْتتَهَادَ على مساره قواربُ النصر تَحْكِي أمْجاد العصور.