– بقلم : عزيز لعويسي
دقت ساعة القتل البشـع مرة أخرى بمدينة آسفي، والضحية هذه المرة موظف شرطة برتبة ضابط أمن وافته المنية إثـر تلقيه لطعنات غادرة باستعمال السلاح الأبيض، من طرف شخص من ذوي السوابق القضائية، وفي بـلاغ لها حول الموضوع، أفادت المديرية العامة للأمن الوطني – حسب المعطيات الأولية -، أن المشتبه فيه، باغت الشرطي الضحية من الخلف وعرضه للضرب والجرح باستعمال السلاح الأبيض، بسبب خلاف عرضي حول ثمن بعض السلع بسوق المتلاشيات بمدينة آسفي، لما كان الضحية بصدد قضاء بعــض الأغراض.
وهذه الجريمة البشعة، تسائل واقع الأمن بمدينة آسفي التي ارتفع فيها منسوب الإجرام في الآونة الأخيرة، كما تسائل قضايا الاعتداء باستعمال “الأسلحة البيضاء” التي باتت تفرض حزما أمنيا وقضائيا وزجريا، وتسائل قبل هذا وذاك المخاطر المرتبطة بالعمل الشرطي، وفي هذا الإطار، وعكس ما قد يعتقده البعض، فالخطر يبقى محدقا بعناصر الشرطة حتى وهم خارج أوقات العمل، خاصة الذين يشتغلون في دوائر الشرطة ومصالح الشرطة القضائية، حيث تفرض عليهم مهامهم الاحتكاك اليومي بأشكال مختلفة من المجرمين المتورطين في قضايا السرقات والضرب والجرح والاتجار في المخدرات وغيرها.
وأيضا وعكس ما قد يظنه الكثير، فرجل الشرطة الذي يكرس حياته في حماية الأشخاص والممتلكات، ويجابه المخاطر والصعاب لإيقاف الأشخاص المجرمين والخارجين عن القانون،ويضحي بحياته آناء الليل وأطراف النهـار في سبيل السهر على حماية حياة الأشخاص وسلامة الممتلكات، هو نفسه إنسان، معرض بدوره لخطر العنف والاعتداء، وبحكم وظيفته، فهو الأكثر عرضة للعنف والاعتداء وحتى القتل البشـع، كما حدث بالنسبة للضابط الراحل، الذي تعرض لضربات غادرة متكـررة حاملة لمشاعر الانتقام، بل أكثـر من ذلك، فالشرطي لما يقع في خطأ مهني، تسلط نحوه كل سهام النقد والإدانـة، ولما يكون ضحية عنف أو اعتداء أو حتى قتل، تجف الأقلام وتخرس الأصوات، فما حدث من جريمة بشعـة، يضعنا أمام مخاطر شرطية حقيقية تضـع الشرطيين في صلب معادلة صعبة، فمن جهة يتحملون مسؤولية السهر على حماية حياة الأشخاص وسلامة الممتلكات، ومن جهة ثانيـة، يحرصون على سلامة حياتهم الخاصة من أن تطالها أيــادي المجرمين والمنحرفين في إطار الانتقامات وتصفية الحسابات.
أن يتم استهداف شرطي بهذه الطريقة البشعة، دون مراعاة لمهنته الشرطية ولا لأسرته وزملائه، فهذا معناه أن الإجرام بلغ مداه والانفـلات وصل منتهاه، وهذا العمل الإجرامي الجسيم، هو اعتداء على منظومة شرطية بأكملها واعتداء على القانون والنظام، وتكريس لإحســاس المواطنين بانعدام الأمن، وتبخيس للمجهودات التي ما فتئت تبذلها مختلف الأجهزة الأمنية عبر التراب الوطني في سبيل السهر على حماية الأشخاص وسلامة الممتلكات، وإذا رحل ضابط آسفي بهذه البشاعة، فهذا الرحيل لن يكون بدون شك الأول ولا الأخير في مهنـة جسيمة، مرادفة للتضحية والصبر والتحمل ونكران الذات والحيطة والحذر واليقظة والجاهزية والاستعداد والمتاعب والآهات المستدامة، لكن وبقدر جسامتها بقدر نبلها وشرفها، لأنها تعني بالنسبة للمواطن، مفاهيم الأمن والطمأنينة والسكينة والاستقـرار والحماية، وبين الجسامة والنبل والشرف، تتموقع حياة كل نساء ورجال الشرطة، في مسـار مهني ليس بالهين، غالبا ما تختصر تفاصيله في عبارة “الله يخـرج السربـيس على خير”، وهي عبـارة دالة على عمق المعاناة التي يعيشها الشرطيين طيلة مسارهم المهني، لمنح المواطنين الحق في العيش في مناخ آمن ومطمئن ومستقر، مهما كانت طبيعة الإكراهات المهنية القائمة.
من الناحية القانونية والمسطرية، يصعب الخوض في تفاصيل السبب أو الأسباب التي تحكمت في هذه الجريمة البشعة التي كرست آسفي مدينة إجرام بامتياز في الآونـة الأخيرة على الأقل، في انتظار ما سيسفر عنه البحث القضائي الذي فتحته المصلحة الإقليمية للشرطة القضائية بآسفي مع المشتبه فيه – الموضوع رهن تدبير الحراسة النظرية – وذلك تحت إشراف النيابة العامة، لكن وإذا ما تركنا الجانب المسطري القضائي جانبا، فما حدث، يسمح بإبـداء الملاحظات التالية :
– أن مدينة آسفي سرقت الأضواء في الآونـة الأخيرة، بعدما سجلت أكثر من جريمة قتل باستعمال السلاح الأبيض، وهذا يسائل الواقـع الأمني بحاضرة المحيط.
– أن ما وقع للضابط الراحل، هو امتداد لبعض الاعتداءات التي طالت مؤخرا بعض عناصر الشرطة، كما هو الشأن بالنسبة لرجل شرطة، ظهر مؤخرا في مقطع فيديـو يمسك بشخص موقوف، قبل أن يباغته هذا الأخير بلكمة على مستوى الوجـه، دون اعتبار لزيه النظامي ولا لما يقوم به من واجب مهني.
– أن الجريمة عرفت تمددا خلال الآونـة الأخيرة، ولا يمكن أن نلقي المسؤولية كاملة على الجهاز الشرطي الذي يصعب عليه تغطية كل الشوارع والطرقات والأحيـاء في ظل الخصاص المهول في الموارد البشريـة، كما أن الأداء الشرطي، من الصعب أن يحقق النجاعة المأمولة، في ظل ما يعيشه المجتمع من إفلاس قيمي وأخلاقي يشجع على الإجرام والانحراف.
– مسؤولية ضمان “الحق في الأمن” وإن كانت مسؤولية خالصة للأمن الوطني، فهي أيضا مسؤولية “المواطن” الذي يجب أن يكون متعاونا ومنضبطا وملتزما، ومسؤوليـة مجتمع يتحمل وزر ما بات يبرز من مشاهد التهور والعبث والفوضى والانحطاط والانحراف، ومسؤولية الدولة فيما يتعلق بالضبط القانوني والقيمي والأخلاقي، ومسؤولية الإعلام على مستوى التوعية والتأطير والارتقـاء بمستوى الأذواق والقيم، ومسؤولية مؤسسات التنشئة الاجتماعية وفي طليعتها الأسـرة التي تراجعت أدوارها التربويـة، ورمت الكرة بأكملها في مرمى المدرسة التي لايمكن أن تدرس وتكون وتربي في نفـــس الآن.
– الجريمة أو الجرائم التي حدثت في آسفي، تفرض دق ناقــوس الخطر وجرس الإنـذار، لأن الشرطة لما تمس أو يتم الاعتداء عليها من قبل المجرمين والمنحرفين، فهذا معناه أن الوضع بات مقلقا، لذلك، لامناص من وضع المدينة تحت المجهر، ومحاولة فهم كل الأسباب والمسببات التي جعلت من عاصمة عبدة، تتصدر المشهد الإجرامي في الآونـة الأخيرة، وفي هذا الصدد، فما حدث من جرائم، يسائل واقـع الممارسة الأمنية ومدى نجاعة أو صواب الاستراتيجية الأمنية المعتمدة في محاربــة الجريمة، ويسائل أيضا الواقع الاقتصادي والاجتماعي بالمدينة، بكل بساطة لأن ما هو سوسيواقتصادي ومجالي يؤثر على ما هو أمني، إذ، كلما كان المجال يعاني من الاختلال والتناقض والإقصـاء الاجتماعي وما يرتبط به من فقر وتهميـش، كلما كان منتجا للانحراف بكل تجلياته ومستوياته، وبالتالي، فأية مقاربة أو استراتيجية أمنية، فلن تكون إلا قاصرة ومحدودة على مستوى النتائج، ما لم تكن توازيها مقاربة تنموية ومجالية، وبالتالي، فأي تصـور يلقي بكرة المسؤولية كاملة في مرمى الشرطة، هو تصور غير سديد، لأن الجريمة لها أبعاد أمنية وقانونية وقضائية ومجالية واقتصادية واجتماعية وتنموية، وهذا يقتضي وضع مقاربة متعددة الأبعاد للتصدي للجريمة ســواء في آسفي أو في غيرها.
سوق المتلاشيات مسرح الجريمة، وكما تناقلته العديد من وسائل الإعــلام، هو سوق تحضر فيه كل مشاهد البؤس والعشوائيـة والتخلف، مما يجعل منه مكانا تتوفر فيـه كل الشروط المنتجة للجريمة، وهذا الوضع يسائل بدرجة أولى واقع التدبير المجالي بالمدينة، فمن الناحية الأمنيـة والاجتماعية والإشعاعية، غير مقبول أن تحضر بين ظهرانينا”أســواق عشوائية” تعود إلى سنوات خلت، ونرى أن الوقت حان، للقضاء على الأسواق العشوائيـة المنتشرة على امتداد التراب الوطني، والتي لايمكن إلا أن تفرخ الجريمة بكل مستوياتها، فمنطقيا لايمكن أن نسعى إلى تحقيق الأمن والاستقرار، وفي ذات الآن نوفـر بيئات عشوائية حاضنة للمنحرفين والمجرمين، والحل يكمن في الرهان على أسواق نموذجية عصرية، تخضع لسلطة النظام، تراعى فيها شروط الكرامة والأمن والاستقرار، وما قيل عن الأسواق العشوائية، يقال أيضا عن الأحياء العشوائية ومدن الصفيح، والتي تشكل مجالات خصبة لنمو الجريمة وترعرعها، ونوجه في هذا الصدد، البوصلة نحو الجماعات الترابية التي لابد لها أن تتحمل مسؤولياتها، في الارتقاء بالمستوى التنظيمي والجمالي للمدن من طرق وإنارة عمومية وفضاءات خضراء وملاعب قرب ودور الشباب والثقافة وفرص الشغل وغيرها، لأن البؤس الحضري، لايولد إلا البؤس القيمي والأخلاقي الذي يعد مدخلا جوهريا للجريمـة، وهذا معناه أن الأمن هو “هم مشترك ” الكل يتحمل مسؤوليته.
– لايمكن إنكار الدور الذي تقوم به مختلف الأجهزة الأمنية في سبيل محاربة الجريمة وتعقب المنحرفين والمجرمين رغم قلة الإمكانيات والوسائل أحيانا، لكن هذا الدور، يتداخل مع واقع التدبير المجالي كما تمت الإشارة إلى ذلك، ويتداخل أيضا مع القانون والقضاء، من منطلق أن العقوبات الجنائية تكون أحيانا مشجعة على الانحراف والجريمة، فمثلا، الذي يعتدي بالسلاح الأبيض أو يتعاطى للسرقة بالعنف أو يتاجر في المخدرات، ويتلقى عقوبة حبسية لاتتجاوز بضعة أشهر، فلما يغادر أسوار السجن، فهو يخرج أكثر قوة وأكثر جرأة وربما أكثر احترافية لأنه استأنـس بحياة السجن، مما قد يفسر ارتفاع حالات العود وسط شرائح واسعة من المنحرفيـن، وهذا يقتضي اعادة النظر في الترسانة القانونية الجنائية القائمة، إذ، وفي ظل حالة التهور والانفلات، بات من الضروري، إجراء تعديلات على عدد من الفصول خاصة المرتبطة بجرائم الضرب والجرح والقتل، بشكل يضمن وضع عقوبات صارمة ومشددة على الجرائم التي يستعمل فيها السلاح الأبيض بما فيها حالات حيازة السلاح بدون أي مبرر مشروع، وفي انتظار ذلك، القضاء يبقى مطالبا بالتعامل الصارم والحازم مع قضايا الاعتداءات والسرقات باستعمال السلاح الأبيض والاتجار في المخدرات والأقراص المهلوسة وغيرها، لأن العقوبات الصارمة والصارمة جدا، قد تكبح جماح المتهورين والمنحطين.
ختاما، ومهما قيل أو يقال، فالجريمة هي نتيجة تربية وسلوك وأسرة ومدرسة ومجتمع وثقافة ومجال وقيم وأخلاق وإعلام وقانون وقضاء وأمن، والتصدي لها بوعي وتبصـر، يقتضي استراتيجية شمولية متعددة الأبعاد، تراعي أساسا المحددات الأمنية والسوسيومجالية والاقتصادية والقانونية والقضائية والتربويـة، وإذا كانت البوصلة قد وجهت عبر هذا المقال، نحو مدينة آسفي ذات التاريخ العريق، فنرى أن كل المدن باتت تعرف ارتباكات قيمية وأخلاقية تشجع على العبث والتهور والانحراف والإجرام، وإذا كان الملف هو ملف أمني قضائي صرف بحكم الاختصاص، فهي مناسبة للتنصيص على ضرورة المزيد من الحزم والتعامل الصارم، فيما يتعلق بقضايا حمل السلاح الأبيض والتهديد والاعتداء والسرقات والاتجار في المخدرات والأقراص المهلوسـة، مع التأكيد على ضرورة فتح نقاش وطني حقيقي حول الواقع الأمني بالمغرب وخاصة في المدن الكبرى التي يرتفع فيها منسوب الانحراف والإجرام، وفق رؤيـة شمولية عميقة، تيسر مهمة تنزيل مقاربات أمنيـة فاعلة وناجعـة،ونؤكد مرة أخرى أن “الأمن” هو “مسؤولية جماعية ومجتمعية”، وأي اختزال لها في الجانب “الأمني”/”الشرطي” الخالص، فلن يكـون إلا إخفاء لشمس الحقيقة بالغربال، أما مدينة “آسفي” التي باتت بؤرة إجرام، فقد بات سكانها أكثر حاجة للأمن أكثر من أي وقت مضى، ونختم بتقديم خالص العزاء إلى أسرة الفقيد وزملائه بالأمن الإقليمي بآسفي وإلى المديرية العامة للأمن الوطني، سائلين الله عز وجل أن يشمله بواسع رحمته ومغفرتـه، وأن يلهم ذويـه وأصدقائه وزملائـه في العمل الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.. وداعا أيها الضابط … وداعا فقيد حاضرة المحيط ..