الامتحان الجهوي .. التاريخ والجغرافيا في قلب العاصفـة

0

  – بقلم : عزيز لعويسي

بعد أن انتهت العمليات المرتبطة بتصحيح الامتحان الجهوي الموحد لنيل شهادة البكالوريا-  قطب  العلوم -(الدورة العادية)، بمختلف مراكز التصحيح، كان من الضروري أن نعود  إلى الامتحان  الجهوي  الخاص بمادة التاريخ والجغرافيا على صعيد أكاديمية الدار البيضاء- سطات، الــذي  أثــار زوبعة من النقاش والجدل واللغط في أوساط  بعـض مفتشـي المادة ومدرسيها، وحتى المترشحين المتمدرسين أنفسهم، الذين خرجوا من قاعات الامتحان في حالة من الشك والقلق والإبهـام والإحباط، خاصة في مادة الجغرافيا – وضعية الاشتغال على الوثــائق -، وفي هذا الصدد، وخلافا لما قـد يعتقده  البعض،  فليس  القصد من هذا المقـال  إشهار سيوف النقد أو توزيـع  صكـــوك الاتهام بشكل اعتباطي، أو الخوض في جزئيات وتفاصيل ما تم تسجيله من ملاحظات نقدية شكليـة وموضوعية ومنهجية بخصوص هذا الامتحان،  لأننا على  قناعة في  أن  مشكلة مادة التاريخ والجغرافيا، هي أكبـر من وضعية اختبارية مثيـرة للنقاش والجدل والنقـد، وأكبــر من إبداء آراء أومواقف أو تسجيل ملاحظات “لا تقـدم ولا تؤخـر” بخصوص امتحان  جهــوي  عابــر،توقفت عقـارب ساعته، بإســدال  ستـار التصحيـح في انتظار موعد الإعلان عن النتائـج.

وحتى لانقوم بحجب شمس الحقيقة بالغربال أو وضع  الماكياج  على  الوجه الشاحب للمادة، فما أحدثتـه الوضعية الاختبارية للجغرافيا أساسا، من  ملاحظات وردات أفعال متعددة  الزوايا، يقتضـي فتح نقــاش حقيقي ومسـؤول حول واقع تدريس مادة التاريخ والجغرافيا بالسلك التأهيلي بشكل خاص، استحضارا لما شهده ويشهده المغرب، من دينامية إصلاحية  ذات حمولـة تنمويـة، وفي طليعتها  الشروع في تنزيـل مشروع الحماية الاجتماعية والتأهب للدخــول في صلب “النموذج التنموي الجديد” وما سيرتبط به من خطط وبرامج ومشاريع تنموية استراتيجية، والمتغيرات الجيوسياسية ذات الصلة بقضية الوحدة الترابية، والدور المتنامي للمغرب في العمق الإفريقـي،فضلا عما فرضته الأزمة الوبائيـة من أنماط بيداغوجية غير مألوفـة، وكلها اعتبارات من ضمـن أخرى، تسائل  ما تقدمه المادة  بمكونيها “التاريخ والجغرافيا”، من مضامين ومن أطر مرجعية”أكل عليهاالدهر وشـرب”، لا تساهم إلا في تكريـس  الوجه البشع، لمادة باتت مقرونة بالعذاب والألـم  والغـش و الملل والمعاناة المستدامة واستنزاف الطاقات والقدرات.

وإذا كان الجدل القائم، يسائل بشكل مباشر الجانب التقويمي للمـادة في بعده الإشهــادي، فهي فرصة للتأكيد على ضرورة العناية والاهتمام بالامتحانات الإشهادية، التي يؤسفنا كممارسين، ما يحيط بها منذ سنـوات، من نمطية ورتابـة ونفـور واستنزاف لقدرات التلاميذ أثناء الامتحان وللأساتذة أثناء عمليات التصحيح والمسك، وتزداد بــؤرة الأسف والحسرة تعمقا، لما نقـارن واقع حال امتحانات المادة، مع مواد أخرى من قبيل الفلسفة والعربية وخاصة التربيـة الإسلامية التي باتت امتحاناتها أكثر أناقة شكلا ومضمونا، لذلك فإذا كان لا مفـر من إشهار سيف النقد أو توزيع صكوك الاتهـام، فمن الصواب أن يطال ذلك ما تعيشـه المادة من نمطيـة على جميع المستويات ومنها المستوى التقويمي، وإذا كان لابد من الدفاع والترافـع، فليكن ذلك، من أجل الإسهام في التغيير الجذري للوجه “البشـع” للمادة.

ومهما قيل أو ما يمكن أن يقال، بخصوص الجدل الذي أثـارته الوضعية الاختبارية لمادة الجغرافيا – وضعية الوثائق -، ومن باب التحفيز والتشجيع، فلا يمكن إلا أن نثمن ما بدل من جهـد في وضع هذا الامتحان الجهوي، ونحيي شجاعة واضعيه في  وضع المترشحات والمترشحين في صلب دعامات ديدكتيكية تلامـس بعض القضايا الراهنة، لكن بالمقابل،فالبناء العام للوضعية الاختبارية، أتى معيبا من حيث الشكل والمضمون، وهذا ما فجر عيون الجدل وأثـار فضول النقـاش، وكما تمت الإشارة إلى ذلك، فلن ننخرط في النبش في حفريات هذا الامتحان المثيـر للجدل، من باب تقدير وتثمين المجهود الذي بذل فيـه، لكن نستطيع القول بالمقابل، أن الامتحانات الجهوية أو الوطنية، لابد وأن تخضـع للمقاربة التشاركية ولروح الفريق، بعيدا عن الأنانية أو حب الظهور أو اقتنـاص الفرص التي تتحقق معها المكاسب، مع العناية بمقترحات الأساتذة باعتبارهم الأقرب دون غيرهم إلى واقع الممارسة، دون إغفال حسن الاهتمام بالجوانب الجمالية، والنجاعة في انتقـاء الدعامات التي تحمي الممتحنات والممتحنين من حرارة اللبـس واللخبطة والارتباك كما حدث في الامتحان المذكـور، وإذا كان الرهان على “الراهنية” أمرا محمودا، فلابـد أن يتم التعامل مع المسألة بنـوع من الحيطة والاحتراز، حتى لا يتم وضع المترشحين في صلب قضايـا إما أكبر من مستواهم الإدراكي والمعرفي، أو أنها لازالت جارية ولم تتشكل صورتها النهائيـة بعـد، كما هو الحال بالنسبة لجائحة كورونا وتأثيراتها على التنمية المستدامة وعلى الاقتصاد.

ونختم بتوجيهرسالة إلى كل المتدخلين في تدريس مادة التاريخ والجغرافيا من مفتشين تربويين ومدرسيـن ومن مسؤولين عن المناهج والبرامج، من أجل التحرك وفق ما هو متاح وممكن، لإنقاذ المادة من حافة الإفــلاس إن لم نقل أنها باتت اليوم في حالة إفــلاس حقيقي، وهذه المهمة الصعبة والشاقة، تقتضي زحزحة كبرى – أشبه بزحزحة القارات -لما يؤطر المادة من منهاج وتوجيهات تربوية وأطر مرجعية وبرامج دراسية وطرائق تدريــس، وحتى في ظل جائحة كورونا، التي أحدثت ثورة ناعمة في الأنماط البيداغوجية وطرائق التدريـس، ظلت المادة  على العهد، وفيـة كل الوفـاء لكل ما هو قديم غارق في النمطية، وعلاقتها بالجديد، لا تتجـاوز حدود من يريد إخفاء الجروح والندوب البارزة بمساحيق التجميـل، والجدل الذي أحاط بالامتحان الجهوي للمادة بجهة الدار البيضاء – سطات، لابد أن يكون فرصة لتشخيص واقـع الحال بكل مسؤولية وواقعية وتجـرد، وقـوة دافعة نحو إحداث تغييـر جذري للمادة، لكسب رهان مادة أنيقـة على مستوى المناهج والبرامج والطرائق والتقويم، تعكـس بقوة، وجـه مغرب اليوم ومغرب المستقبل، وعليه، فإذا لم يتغير واقـع الحال نحو المأمول، سنكون جميعا “شركاء” في جريمـة النمطية والبــؤس والنفور.. والضحايا هم “متعلمون” لاحول لهم ولا قوة، نقـوي فيهم آليات الحفظ والتخزين والشحن وحتى الغش، في عالم متغيـر باستمرار، من الصعب، بل ومن المستحيل مسايرته بأدوات وعقليات تتعبـد في “محراب القديم” …

وفي انتظار إحداث التغيير المنشود، يمكن على الأقل التصرف والاجتهاد حتى من داخل الوثائق التربوية العتيقة التي تفرض كالجائحة سلطتها المطلقة على المادة، من خلال التقليص من الكم الهائل الذي يتخلل البرامج الدراسية، عبر الشجاعة في حذف بعض الوحدات الدراسية / الدروس  التي بات عمرها أكبر من عمر المتعلمات والمتعلمين وربما حتى من عمر بعض الأساتذة الجدد، ولم تعد تكرس إلا المزيد من الإرهاق والبؤس والرتابة والنفـور، وحسـن العناية بالأنشطة المندمجة التي يمكن الرهان عليها لتنمية القدرات والمهارات والقيم والمشاريع الشخصية، خاصة في ظل غياب مادة تعنى بالتربية على المواطنة والقانون والحقوق، أما “التقويم النمطي” فقد بات مخجلا جدا، إلى درجة أن كل الامتحانات الوطنية والجهوية وحتى فروض المراقبة المستمرة تكاد تكون “نسخة طبق الأصل”، وهذه النمطية الكاسحة بالإمكان تجازها بإخضاع الأطر المرجعية إلى سلطة التغيير، بشكل يحرر العقول من سلطة التقليد، ويطلق العنان للتفكير والاجتهاد والإبـداع، بما يضمن صياغة وضعيات اختبارية أنيقة شكلا ومضمونا، وبما أننا نعيش أجواء الامتحانات، فهي فرصـة للتنويه بالأدوار المتعددة الزوايا التي يضطلع بها نساء ورجال التعليم في إطار هذه الاستحقاقات وطنية كانت أو جهوية بكل تضحية وصبر وتحمل ونكران للذات، وبذلك، فنحن نطالب بالعناية بالجانب التحفيزي، عبر الارتقاء بمستوى التعويضات الممنوحة خاصة على مستوى المراقبة والتصحيح والمسك والإشراف والتنقل …، وذلك على غرار باقي المتدخلين في هذه الامتحانات إقليميا وجهويـا، لأن الرهان على الجاهزية والاستعداد والجودة، يمر قطعا عبر الجانب التحفيـــزي، الذي بدونه يصعب الحديث عن “الإصلاح”.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.