رصاص الاحتلال لم يكن يفرق بين المقاومين والمدنيين المحاصرين داخل الكنيسة، وأصبحت أسلحتهم المزودة بأشعة فوق بنفسجية تطلق النار على أي جسم يتحرك أمامهم، ليكون قارع أجراس الكنيسة أول شهيد يرتقي خلال الحصار. “صعد سمير وهو شاب بسيط جدا معروف لكل مدينة بيت لحم، ليقرع الأجراس بأمر من الرهبان، فأطلق عليه القناصة النار”، يروي رامي. لتصمت أجراس الكنيسة طيلة أيام الحصار.
وفي أحد أيام الحصار، وقبل صلاة الفجر بعشر دقائق، اتصل والد نضال عبيات على نجله في كنيسة المهد، “كيفك يابا انت بخير؟ اصحيت أنا وأمك على صوتك بتصحي فينا على الأذان”. ليرد نضال، “ما تقلق يابا انا بخير بدي أروح أتوضأ وأصلي وبرجع بتصل فيك”، ذهب نضال ليتوضأ وما أن عاد ليصلي، حتى كان له القناص بالمرصاد وأطلق عليه النار فأصابه بالقلب ما أدى لاستشهاد فورا”.
نضال ورامي كانا رفيقا درب وسلاح، “عندما أصبت أعتنى نضال بي بعدما هربت من المشفى، هو من كان يساعدني على الاستحمام وينظف لي جروحي”.
فرامي كان مصابا عند دخوله كنيسة المهد، فقبل خمسة أشهر اخترق الاحتلال هدنة وقف اطلاق النار، بمحاولة اغتياله في الرابع من تشرين أول 2001، “خسرت يدي اليمن، وأصبت بأكثر من 100 شظية ما أدى لتمزق الكبد، دخلت إثرها غيبوبة لثمانية أيام.. هربت من المشفى بعد أن عرفت بخبر استشهاد صديقي عاطف عبيات واستشهاد زوج شقيقتي فراس صلحات”.
انتزاع قرار فك الحصار
انتزع المقاومون قرارا بخروجهم سالمين من الكنيسة، فيما وضع الاحتلال عليهم شرط الإبعاد، جزء إلى الدول الأجنبية وآخر إلى قطاع غزة، ليتلقى المقاومون اتصالين من الشهيدين ياسر عرفات وأحمد ياسين كان مفادهما، “أنتم القادة في ساحة المعركة، وأنتم من يقرر مصير المعركة … لكم أن تختاروا الاستشهاد أو الإبعاد أو الاستسلام”، ليختار المقاومون خيار الإبعاد لعامين ثم العودة إلى الوطن، وهو مالم يتم منذ 13 عاما.
يقول فهمي كنعان، إن المحاصرين رفضوا التفاوض بشكل مباشر مع الاحتلال، مؤكدين أن من يمثلهم هي السلطة الفلسطينية برئيسها آنذاك ياسر عرفات. ويضيف، “شكل الرئيس عرفات لجنة مكونة من النائب صلاح التعمري والذي اعتمد كرئيس لها، ورئيس بلدية بيت لحم حنا ناصر، وعماد النتشة رئيس الارتباط الفلسطيني.. وبدأت المحادثات وكما أبلغنا التعمري حينها أنهم اتفقوا على إبعاد ستة فقط من المحاصرين في الكنيسة وإبعادهم إلى قطاع غزة لمدة عامين فقط”.
لكن قبل أن يكتمل هذا الاتفاق؛ فوجئت اللجنة بوجود خط آخر للمفاوضات في القدس. ويوضح كنعان أن الاحتلال أبلغ اللجنة بوجود خط آخر يفاوض سرا في القدس، بإدارة محمد رشيد ومحمد دحلان، مبينا أنه وفور تبليغ التعمري الذي كان متواجدا مع المحاصرين داخل الكنيسة، خرج فورا مبلغا الشهيد عرفات باستقالته.
بعد 35 يوما خرجت قائمة أسماء بإبعاد 16 من المحاصرين إلى الدول الأجنبية، و26 محاصرا إلى قطاع غزة، وهو ما كان يرفضه المحاصرون في البداية، إلا أن تضييق الحصار عليهم وقطع الماء والغذاء وما واكبه من قلق وترقب أصابهم بالإجهاد والتعب وفقدوا الكثير من أوزانهم، ما أجبرهم على دراسة الخيار المطروح.
يقول كنعان، “أخبرتنا السلطة الفلسطينية أن الإبعاد سيكون لعامين فقط، وتقديرا منا لظروف مدينة بيت لحم وخاصة أن 140 ألف نسمة محاصرين في ظروف صعبة، ممنوعون من التجول.. قررنا الموافقة الجبرية على هذه الصفقة”.
خرج المحاصرون من الكنيسة مرورا في البداية عن حاجز للقوات الفلسطينية التي أخضعتهم للتفتيش، ثم نقلوا بحافلات تحت حراسة قوات أمريكية وأوروبية، “بعد عامين من الإبعاد تفاجأنا من عدم وجود وثيقة أو اتفاق على عودة مبعدين الكنيسة إلى مدينة بيت لحم… وهانحن ندفع اليوم الثمن دون وجود أي حل لقضيتنا”.