حديث في الأسبوع العالمي للأرشيف
بقلم: عزيز لعويسي
احتفاء بالأسبوع العالمي للأرشيف، نظمت مؤسسة أرشيف المغرب، أنشطة ثقافية متعددة الزوايا، طبعها التوقيع على اتفاقيتي هبة بتاريخ الثلاثاء 06 يونيـو، الأولى مع السيدة لمياء الراضي، نجلة الراحل عبدالواحد الراضي، ترجمة وتفعيلا للمبادرة التي أقدم عليها المرحوم قيد حياته، التي ائتمن من خلالها المؤسسة الأرشيفية على أرشيفاته الخاصة، أما الثانية، فقد ارتبطت بمجموعة من الصور الفوتوغرافية حول الدارالبيضاء، سبق أن اقتنتها “مؤسسة البنك المغربي للتجارة والصناعة” (Fondation BMCI) من الدكتور روبير شاستيل “Robert Chastel”، لفائدة أرشيف المغرب، وقد ميز فعاليات الاحتفاء، تدشين معرض للصور والوثائـق، يوم الجمعة 9 يونيو (اليوم العالمي للأرشيف) تحـت عنوان “ابراهيم أخياط : مسار نضالي حافل من أجل الهويـة الأمازيغية” (مفتوح أمام العموم إلى غاية 20 نونبر 2023)، مهدت له (التدشين) ندوة تضمنت شهادات في حق الراحل (1941-2018)، تقدمت بها شخصيات سياسية وثقافية؛
إضافة إلى اتفاقية ثالثة، تسلمت المؤسسة بموجبها، من السيد رشيد اجباير، مجموعة من الصور والوثائق المتعلقة بالمرحوم والده ( المتوفى سنة 2009 )، والذي ناضل قيد حياته، في صفوف المقاومة المغربية ضد الاستعمار الفرنسي، والوثائق الأرشيفية المذكورة، سيتم الاحتفاظ بها بالمؤسسة تحت اسم ” مجموعة المقاوم محمد بن علي جباير”، وقد تزامنت أنشطة المؤسسة بذات المناسبة، بصدور العدد السابع من مجلة أرشيف المغرب، والذي خصص موضوعه لأرشيفات إفريقيـا، مواكبة من المؤسسة، لما تعرفه العلاقات المغربية والإفريقية من دينامية دبلوماسية ومن ترابطات اقتصادية وتنموية وروحية، قوت وتقوي حضور المملكة في عمقها الإفريقي؛
مؤسسة أرشيف المغرب، وهي تضع يدها على أرشيفات خاصة نوعية، ممثلة في التراث الوثائقي للراحل عبدالواحد الراضي، وصور فوتوغرافية اقتنتها مؤسسة البنك المغربي للتجارة والصناعة لفائدة أرشيف المغرب، وأرشيفات المقاوم محمد بن علي جباير، تؤكد بما لايدع مجالا للشك، أنها ماضية في قطف أزهار ما أرسته منذ تأسيسها، من “رؤية متبصرة”، تجمع بين دفتيها “التواصل الفعال” و”الإقناع الناجع”، وبهذه التوليفة، نجحت المؤسسة، تحت الإدارة السديدة لمديرها الدكتور جامع بيضا، في اقتحام خلوة عدد من القلاع الأرشيفية المنيعة، لشخصيات فكرية وعلمية وسياسية ودبلوماسية وثقافية وإبداعية، بصمت الذاكرة السياسية والنضالية الوطنية، وطبعت المسار الفكري والثقافي والإبداعي للمغرب المعاصر والراهن؛
لكن من الضروري الإشارة إلى أن المؤسسة، ومهما بلغت من التواصل درجات، ومن الإقناع مستويات، فبدون شك، لن تستطيع كسب الرهان كاملا، ما لم تحضر بعض الشروط الأخرى من جانب “ملاك الأرشيف”، مرتبطة بمدى نظرتهم للمؤسسة الحارسة على الأرشيف العمومي بمنظور الثقة، ومدى تملكهم لثقافة الأرشيف، ومدى استيعابهم للأدوار المحورية لأرشيف المغرب في حفظ وصون التراث الأرشيفي الوطني، ومدى جاهزيتهم واستعدادهم لمد جسور التواصل والتعاون مع المؤسسة، ومدى تقديرهم لمسؤولياتهم المواطنة، في دعم مجهوداتها، خدمة لمسألة الأرشيف الوطني، باعتباره ملكا مشتركا لكل المغاربة، وبين هذا وذاك، مدى تملكهم لقيم الوطنية الحقة، وما يرتبط بها من مسؤولية وتضحية ونكران للذات، ومدى انتصارهم لمصالح الوطن وقضاياه المصيرية والاستراتيجية…
وحتى لا نكون سلبيين، أو نبخـس الناس أشياءها، فلا يمكن إلا الوقوف وقفة احتــرام وتقدير، أمام عدد من الشخصيات السياسية والنضالية، والقامات الفكرية والعلمية والثقافية والإعلامية والإبداعية، التي وضعت ثقتها الكاملة في مؤسسة “أرشيف المغرب” منذ تأسيسها، بائتمانها على ما تحتضنه من تراث وثائقـي، والتنويـه بكل ذوي الحقوق، الذين لم يتـرددوا في طرق أبواب المؤسسة، وائتمانها على ما وصل إليهـم من أرشيفات، لكن وبقدر ما نثمن ما حققته “أرشيف المغرب” من “فتوحات أرشيفية” إذا ما جاز التوصيف، بقدر ما نرى أن معركة الأرشيفات الخاصة، لازالت شاقة وممتدة، في ظل عدم وجود سلطة حقيقية للمؤسسة عليها، وتحتاج هذه المعركة إلى نفس طويل، استحضارا لعدد من الشخصيات التي لا زالت تتموقع في المنطقة “الرمادية” أو تكتفي بلعب “دور الكومبارس”، أو ربما ترفض مد أي جسر تواصلي مع المؤسسة الحارسة على الأرشيف العمومي، واعتبارا لما يعتري “ثقافة الأرشيف” من فراغات، تعبئتها تحتاج إلى الصبر والإصرار، وتملك روح المبادرة، والعزيمة والقدرة على اقتحام “القلاع” الأرشيفية التي لازالت منيعة ومستعصية؛
وحسب تقديرنا، نرى أن المعركة بالنسبة لأرشيف المغرب، لايمكن البتة حصرها في دائرة الأرشيفات الخاصة ببعض الشخصيات الوازنة في مجالات السياسة والفكر والعلوم والثقافة والإعلام والفنون والإبداع، بل لابد أن تمتد رقعتها لتستوعب بعض الأرشيفات النوعية الخاصة ببعض القطاعات، من قبيل “أرشيفات الصحة” أو “أرشيفات المؤسسات الاستشفائية”، و”أرشيفات الأمن الوطني”، و”أرشيفات الجمارك”، و”أرشيفات السياحة”، و”أرشيفات الأبناك” و”أرشيفات البريد”، و”أرشيفات محو الأمية” و”أرشيفات المسرح والموسيقى” و”أرشيفات الرياضة الوطنية”، وطرق أبواب هذه القطاعات وغيرها، من شأنه التحسيس بالمسألة الأرشيفية في أوساط الإدارة والمؤسسات، وبقيمة حفظ الأرشيفات والتدبير الأمثل لها، في حفظ المعلومة وحسن تنظيمها، والإسهام في توسيع رقعة ثقافة الأرشيف، وصون التراث الأرشيفي الوطني بكل تمظهراته ومستوياته، وقد انتبهت أرشيف المغرب إلى هذه الجبهات، من خلال بوابة “التعليم المدرسي”، بعدما نجحت قبل سنتين، في إبرام اتفاقية شراكة، مع “المديرية الإقليمية للتربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة” بالمحمدية، تعد الأولى من نوعها على المستوى الوطني، تلتها شراكة مماثلة، مع المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بجهة الرباط سلا القنيطرة “فرع القنيطرة”، وهذه الجبهة الأرشيفية المدرسية، في حاجة اليوم، إلى “التقييم” و”التقويم” لاعتبارين اثنين: أولهما: الحرص على بلوغ مرمى الأهداف التي تحكمت في توقيع الشراكتين، بالنظر إلى محورية قطاع التعليم في كسب رهان ثقافة الأرشيف، وثانيها: استثمار ما تخلل هذه التجربة من مظاهر القصور والمحدودية، بما يخدم أية شراكة مستقبلية للمؤسسة مع قطاعات أو مؤسسات أخرى؛
معركة الأرشيفات الخاصة، ما هي إلا تحديا من بين تحديات كثيرة مطروحة أمام الأرشيف المغربي، تقتضي إخضاع القانون المنظم للأرشيف لسلطة “التغيير” و”التتميم”، بعد أكثـر من عقد من الزمن من التطبيق، استحضارا لما أبان عنه واقع الممارسة الأرشيفية، من ثغـرات، واعتبـارا لما طرحته جائحة كورنا، من رهـانات أرشيفيـة، من قبيل “الرقمنة” و”الأرشيف الجهوي” و”شرطة الأرشيف”، و”الأرشيف الإلكتروني والرقمي”، و”الجريمة الأرشيفية الإلكترونية والرقمية” و”معاينة المخالفات الماسة بالأرشيف الإلكترونية والرقمية”…، فضلا عن ضرورة تمكين المؤسسة الأرشيفية من مقر لائق يعكس طابعها الاستراتيجي، وإحاطتها بكل ما يساعدها على الاضطلاع بأدوارها المتعددة المستويات كاملة، من موارد بشرية مؤهلة، وإمكانيات مادية ولوجستية، وبدون شك، تعول المؤسسة على “الاستراتيجية الجديدة للأرشيف” المرتقب الإعلان عنها في الأشهـر القليلة القادمة، من أجل تجاوز المعيقات وتصحيح الاختلالات القائمة، بما يرفع من قدراتها، لتكـون في مستوى ما ينتظرها من رهانات وما يواجهها من تحديات؛
ونختم المقال بالتنويه بنجلة الراحل عبدالواحد الراضي، التي نفذت مبادرة والدها قبل أن يدركه الموت، ونجل المقاوم محمد بن علي جباير، الذي بادر إلى ائتمان أرشيف المغرب على أرشيفات والده الراحل، وتثمين ما أقدمت عليه “مؤسسة البنك المغربي للتجارة والصناعة” من التفاتة مواطنة، داعمة للتراث الأرشيفي الوطني، وهي بذلك، تؤكد أن المسألة الأرشيفية هي مسؤولية أفراد وجماعات، وعليه، فكل المؤسسات الوطنية/ المواطنة، مدعوة لدعم الاستراتيجية الجديدة لمؤسسة أرشيف المغرب، بكل السبل الممكنة والإمكانيات المتاحة، وألا تتردد في مد جسور التواصل والتعاون معها، ومدعوة أيضا لحفظ وتثمين ما تنتجه من أرشيفات، انسجاما ومقتضيات القانون المنظم للأرشيف ومرسومه التطبيقي، وذلك خدمة لتراث أرشيفي وطني يعد ملكا مشتركا لكل المغاربة، ومرآة عاكسة لتاريخهم المشترك وهويتهم وذاكرتهم الجماعية، أما “ملاك الأرشيف”، فلم يعد ممكنا أن يظلوا متمركزين في “المنطقة الرمادية” أو “منطقة التردد” أو “منطقة الفرجة”، ولابد أن يدركوا أن الوطن، لم يعد يقبل بالأنانيين والمترددين والمتهاونين والمتقاعسين…، فنعم لمن يتحرك ويخطو ويبادر ويقترح ويبني، من أجل وطن نتمناه مزدهرا ومشرقا وبهيا على الدوام …، وبئس لمن لا تتحرك مشاعره لحظة أنين الوطن …؛
ولايمكن أن ندع الفرصة تمر، دون تحية مدير أرشيف المغرب، الدكتور جامع بيضا، الذي تسلم المؤسسة وهي عبارة عن “صبي في المهد”، وحولها بعد طول عناء ومثابرة، إلى “شاب يافع” مفعم بالحيوية والإرادة والأمل والتحدي والحياة، بعدما رفع قواعدها بشجاعة، وحولها إلى واحدة من المؤسسات الوطنية الأكثر نشاطا وحضورا وإشعاعا على المستويين الوطني والدولي، والتنويه بما تزخر به المؤسسة من خبرات وكفاءات، دورها لا يقل عن دور الجنود المرابطة في الحدود، فلا فرق في تقديرنا، بين من يحرس حدود الوطن ومن يحمي تراث وذاكرة الوطن، وهؤلاء جميعا، يستحقون الدعم والتقدير والتحفيز والاعتبار، لأنهم جنود الوطن وحماته وحراسه وعيونه التي لا تنام …