د. أحمد إيشرخان
الشريف النقيب العلامة الفقيه الوجيه سيدي محمد بن النقيب سيدي عبد الكريم بن الفقيه المحتسب سيدي محمد الشبيهي المؤقت الجوطي الإدريسي الحسني، ولد بمدينة زرهون عام 1354هـ/ 1935م حسبما تفيدنا به وثائقه الإدارية، بينما تذكر بعض الروايات الشفهية المتداولة عند بعض أفراد أسرته أن مولده كان عام 1358هـ/ 1939م، ووالده هو النقيب الشهير في النصف الأول من القرن العشرين سيدي عبد الكريم بن المحتسب سيدي محمد الشبيهي المؤقت، الذي تولى النقابة بعد وفاة النقيب سيدي محمد بن المختار في عهد السلطان سيدي محمد بن يوسف ما بين ( 1358- 1377هـ/ 1939-1957م)، وأما والدته فهي لالة زينب بنت العلامة سيدي أبي بكر بن أحمد الشبيهي .
وأما شجرة نسبه فتمتد إلى مولاي إدريس الأكبر عن طريق مولاي أحمد الشبيه دفين خارج باب عيسى بمدينة مكناس والمتوفى سنة 943هـ/ 1536م، وهذه سلسلة نسبه استخرجتها من الإطلالة الزهية: فهو النقيب سيدي محمد بن النقيب سيدي عبد الكريم بن محمد بن أحمد بن محمد بن إدريس بن عبد الله بن العربي بن عبد الله بن محمد بن عبد القادر بن عبد الواحد بن أحمد الشبيه، جد الأسرة الشبيهية، بن عبد الواحد بن عبد الرحمان بن أبي غالب بن عبد الواحد بن محمد بن علي بن عبد الواحد المجاهد بن عبد الرحمن بن عبد الواحد بن محمد بن علي بن حمود بن يحيى بن يحيى بن إبراهيم بن يحيى الجوطي بن محمد بن يحيى العوام بن القاسم، والي طنجة، بن إدريس الأزهر بن إدريس الأكبر.
تمكن الشريف سيدي محمد بن عبد الكريم من حفظ القرآن الكريم بالمسجد الأعظم، وبالضريح الإدريسي، وتنقل بين الكتاتيب القرآنية التي كانت يزخر بها جبل زرهون، حسب ما جرت به العادة من تنقل الأطفال من مكتب إلى آخر لتجويد حفظ القرآن الكريم ولتحسين الخط ولحفظ بعض المتون، كمتن ابن عاشر وألفية ابن مالك، فقد كانت بمدينة زرهون العديد من الكتاتيب القرآنية، حيث ذكر أن عدد المساجد في الزاوية الإدريسية بلغ عددها حوالي 17 مسجدا، وزيادة على كونها مساجد لإقامة الصلاة فإن الفقهاء كانوا يدرسون بغالبيتها القرآن الكريم، وقد قدر عدد التلاميذ بسبعمائة تلميذ. (الإطلالة الزهية، ص. 53).
وفي هذا الجو العلمي استطاع الشريف سيدي محمد ختم سلكته الأولى من القرآن الكريم وهو ابن عشر سنين، على يد الأخوين الفقيهين التوأمين الحسن والحسين ولدا الفقيه الكبير سيدي قاسم السلاسي، وقد اشتهر أحدهما بقوة شكيمته في تحفيظ القرآن الكريم للصبية والآخر بليونته، فعرف الأول بالفقيه الواعر والثاني بالفقيه الساهل، وعلى الإثنين ختم الشريف سيدي محمد ختمته بالزاوية الصقلية بين المزارتين داخل الضريح، وتم تتويجه في موكب احتفالي بهيج من الكتاب إلى منزل والده سيدي عبد الكريم الذي أقام حفلة عشاء حضرها الفقهاء والشرفاء وجميع طلبة الكتاب، وعدد من أبناء الشرفاء من كتاتيب مدينة زرهون.
لا نجد في المصادر ما يفيد المرحلة التالية من تعليمه الموازية لحفظه للقرآن الكريم، لكنه يذكر في «الإطلالة الزهية» أنه في صغره كان بالكتاب وحفظ بعض الأبيات في مدح مولاي إدريس، حيث قال: «كما أنني حفظت في صغري بالكتاب أبيات تنسب لنفس الفقيه – يعني الحسن اليوسي- أو ربما من تخميس أحد الفقهاء المعاصرين له» ا(لإطلالة الزهية، ص. 58).
وبالرجوع إلى بعض المصادر التي أرخت للزاوية الإدريسية في النصف الأول من القرن العشرين، نستحضر ازدهار الحياة العلمية بزرهون، وقد اشتهر بها مجموعة من ألمع المدرسين الذين تتلمذ عليهم الشريف سيدي محمد بن عبد الكريم، مثل: الفقيه السلاسي، والمدرر الفقيه الحناوي، والفقيه عبد الكريم لغزاوي، والفقيه عبد السلام العياشي، والفقيه عبد الواحد الشبيهي، والفقيه مولاي عبد الله عسيلة الشبيهي.
وإلى جانب ذلك تمكن الشريف سيدي محمد من حضور مجموع من الدروس الدينية بالمسجد الأعظم بمكناس، فأخذ عن ثلة من العلماء الذين كانوا يدرسون بهذا الصرح العلمي، فقد ذكر شيخنا العلامة الفقيه سيدي محمد بن عبد الهادي المنوني أن عدد الكراسي العلمية التي كانت بالمسجد الأعظم بمكناس بلغ عددها ثلاثة عشر كرسيا تدرس مختلف العلوم من العلوم الدينية إلى الفلك والتوقيت والحساب.
وكان شديد الحرص على حضور دروس صهره العلامة الفقيه القاضي سيدي محمد بن ادريس العلوي، الذي شغل في فترة سابقة منصب القضاء بمدينة زرهون (1918-1922)، لكنه ظل يتردد على الزاوية إلى حين وفاته عام 1951م، حيث كان يلقي مجموعة من الدروس العلمية إلى جانب شرح صحيح البخاري، كما حضر دروس شيخ الجماعة الفقيه بالخياط الزرهوني الذي تولى مهمة التدريس والخطبة بالمسجد الأعظم بعد العلامة الفقيه القاضي سيدي محمد بن ادريس، وقد تأثر بوالده النقيب سيدي محمد بن عبد الكريم الذي كان فقيها وإماما واعظا مؤقتا وفرائضيا (الإطلالة الزهية، ص. 249). ثم حضر مجموعة من الدروس التي كان يلقيها مولاي أحمد بن الطيب، وهو آخر من أحرز العالمية من جامعة القرويين بفاس عام 1955م، وكان شاعرا ودرس عددا من المواد العلمية بالمعهد الإسلامي بمكناس. وعلى الفقيه الشاعر قاضي زرهون مولاي الطاهر بن التقي الشبيهي، وقد تولى الكتابة بالأعتاب الشريفة ثم القضاء بزرهون في أوائل الخمسينات من القرن العشرين.
إلى جانب دراسته على شيوخ العلم في الزوايا والمساجد الشهيرة بمكناسة وزرهون وفاس، تابع سيدي محمد بن عبد الكريم دراسته بالمدارس الحديثة التي تم إنشاؤها في عهد الحماية، حيث حصل على المرتبة الأولى في الشهادة الابتدائية على صعيد إقليم مكناس فتم استدعاؤه لولوج الأكاديمية العسكرية بالعاصمة الإسماعيلية، لكن والدته لم تطق فراقه باعتباره فريد إخوته البنات الثلاث: لالة نفيسة، ولالة مليكة ولالة مهاني، وهو أصغرهم، وفي المقابل سهرت على تربيته وتلقينه محبة العلم وإكرام العلماء، كما ذكر هو بنفسه عن نفسه عرضا في الإطلالة الزهية. وقد ظل طلب العلم يراود الشريف سيدي محمد طيلة حياته، وهو في شوق دائم إلى تحصيل المعرفة، وبهذا الشوق إلى طلب العلم سجل نفسه في كلية الحقوق في الدروس الليلية المعروفة أنداك بالكفاءة.
في المرحلة المبكرة من طفولته تأثر سيدي محمد بن عبد الكريم بالتصوف المغربي السني على منهج سلوك الجنيد، وذلك بسبب والده النقيب سيدي عبد الكريم الذي زرع فيه محبة أهل الله، ونتيجة تردده على الزوايا التي كانت بزرهون، ومنها الزاوية الصقيلية، والدرقاوية، والوزانية والتيجانية، وزاوية قراءة دلائل الخيرات، كما تأثر بالطرق الصوفية التي كانت تتردد على الحرم الإدريسي مثل: العيساوية والحمدوشية والدغوغية. (الإطلالة الزهية، ص.53)، وكعادة الشرفاء الشبيهين لم يتخذ الشريف سيدي محمد طريقة صوفية، وإن كان عدد من الشرفاء يتبعون بعض الطرق بصفتهم الشخصية، تاركين الضريح لاحتضان جميع الاتجاهات التعبدية، وقد ذكر على سبيل المثال أن جد والده وهو سيدي محمد بن إدريس كانت له صداقة متينة وصلة خاصة مع مولاي العربي الدرقاوي الذي حضر جنازته وأمر أحد البنائين بتشييد قبة على قبره بالمقبرة العائلية الموجودة بغابة سيدي حمو بمدخل عين الرجال. (الإطلالة الزهية، ص.61)
وأما ارتباطه بكتب التراث فيمكن نسبتها إلى تردده على خزانة المسجد الأعظم بزرهون التي كانت تحتوي على مئات من المخطوطات القيمة في علوم مختلفة، جلها من تحبيس ملوك الدولة العلوية الشريفة، والعلماء وبعض المحسنين، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب المخطوطة التي تم نسخها وتحبيسها من طرف بعض علماء مدينة زرهون. (الإطلالة الزهية، ص. 63).
وكان لسيدي محمد رغم صغر سنه ارتباط برجال الحركة الوطنية وبأعضاء جيش التحرير، وهو الذي تولى مفاوضات رجال القوات الفرنسية الذين حاصروا المتظاهرين الوطنيين الذين التجأوا إلى الضريح الإدريسي إثر مقتل أحد أفراد القوات الفرنسية بعد ما ألقت عليه امرأة زرهونيه حجارة من السطح وهو يطارد بعض المتظاهرين ويهددهم بسلاحة، في مظاهرات 20 غشت 1953، وقد نجح في فك الحصار عنهم وخروجهم بدون أن يمسهم سوء بعد تسليم السلاح للفرنسيين، ومن رجال الحركة الوطنية الذين كانت له صلة وثيقة بهم نذكر الفقيه الواعظ مولاي امحمد بن أحمد بن محمد الشبيهي المؤقت الذي تزعم أبناء عمه المناضلين الزرهونيين، فقاوم المستعمر إلى أن ألقي عليه القبض سنة 1952، وحكم عليه بالسجن بسنتين ونصف قضاها بسجن مكناس والرباط. (الإطلالة الزهية، ص. 249). كما ربطته علاقة مودة وتواصل مع المقاوم الحسن المرزوقي، أحد قادة العمل المسلح بزرهون والمشرف على منظمة خالد بن الوليد التي نفدت عدة عمليات فدائية ضد المستعمر الغاشم. ( أسد زرهون المقاوم الحسن المرزوقي مقال منشور بجريدة الإنماء). وكانت له صلة تواصل مع الفقيه سيدي الطاهر بن حماد الشبيهي وهو من أوائل الوطنيين الذين أنشأوا التعليم العصري الحر بالزاوية بزرهون كما ترأس الجمعية الخيرية بها فضايقه المستعمر فاستطاع باستماته نشر التوعية النضالية بزرهون. (الإطلالة الزهية 305).
وبعد استقلال المغرب كان بعض رجال الدولة المغربية يحرسون على اللقاء به بعد زيارتهم للضريح الإدريسي، أمثال: الزعيم علال الفاسي، والوزير المعطي بوعبيد، والمستشار الملكي محمد عواد، ومولاي أحمد العلوي، والفقيه العلامة محمد بن عبد الهادي المنوني.
من خلال مؤلفاته يظهر أن سيدي محمد كان على قدر كبير من تحصيل العلوم خصوصا اللغة العربية وعلوم القرآن والحديث والسير والتراجم، كما كانت له مشاركة في علم التاريخ والتصوف وأدب المناقب، ومارس مهمة عالم الاجتماع وهو يؤرخ للعادات الاجتماعية بمدينة زرهون، وكان له إلمام بعلم التوقيت وبتقويم السنة الفلاحية كما يتبين من خلال الإطلالة الزهية. (ص.177)
ولقد كان على اطلاع واسع بالثقافة الغربية فهو يستدل بأعلام وفلاسفة الغرب، أمثال: جان جاك روسو حيث استدل به في كتابه الإطلالة الزهية (ص. 21)، ومما يدل على مطالعته للتراث الغربي ولوعه بشراء نفاس الكتب باللغة الفرنسية، والتي ما تزال شاهدة على تعدد منظومته المرجعية حسب ما نقف عليه من مدخرات خزانته العامرة بمنزله في زرهون.
كانت لسيدي محمد العديد من الرحلات إلى بلاد المشرق، وخصوصا إلى مكة المكرمة وإلى المدينة المنورة، وفيها التقى بالعديد من العلماء والشرفاء وقد تلقى عنهم مروياتهم كما تداول معهم في شؤون علمية وتاريخية، وقد حضي بشرف النيابة في ختم مجلس علمي أقيم بمكة المكرمة بدعوة من العلامة الفقيه محمد بن علوي المالكي، وهو من أصل مغربي والذي أهداه عددا من كتبه ومنها كتاب «شوارق الأنوار»، وقد حضر بعض حلقاته الدراسية بمدرسته الخاصة بمكة، وبالإضافة إلى ذلك استغل وجوده هناك لزيارات الخزانات العلمية حيث تردد على خزانة المسجد النبوي الشريف، واطلع على المخطوطات التي كان يحتاجها وهو في مرحلة مخاض التفكير في تأليف كتابه في الأنساب، والذي سيحمل فيما بعد عنوان «الإطلالة الزهية»، حيث جلب معه صورة من كتب مخطوطة، لنستمع إليه يصف جانبا من ولعه وسروره بالحصول على بعض مبتغاه العلمي ، يقول: «لقد سررت عندما زرت قسم الوثائق التابع لخزانة الحرم النبوي الشريف، أثناء تواجدي في البقاع المقدسة سنة 1411هـ/ نوفمبر 1991م، وبشوق عميق صعدت الدرج ودخلت القاعة واتصلت بالقيم على القسم، وبعد استفساره عن محتويات النفائس الموجودة فيه، طلبت منه أن يناولني أحد الكتب المخطوطة، وبعد الاطلاع عليه فوجئت وسررت في نفس الوقت، لأني وجدته كتابا مغربيا ، عنوانه: «الدر السني في بعض من بفاس من أهل النسب الحسني» . (الإطلالة الزهية، ص. 181).
ويستفاد من خلال ما ذكره عن نفسه في كتابه «الإطلالة الزهية» أن له رحلات إلى الديار الأوروبية، وقد استفاد منها في المقارنة بين سلوك أهل المغرب والأوروبيين، فقد ذكر أن أهل زرهون كانوا يستحيون من بيع الخبز لذلك كانوا يضعون الخبز فوق وصلة خشبية ويتركونها تحت سقوف السوق في أماكن معلومة وكل من أراد الخبز يضع الثمن المعلوم ويأخذ ما يقابله من الخبز، وهذه الظاهرة شاهد مثلها بسويسرا وفرنسا فيما يخص بيع الجرائد وركوب بعض القطارات. (الإطلالة الزهية، ص.54).
كان أول منصب إداري عمل به الشريف سيدي محمد هو قطاع الشبيبة والرياضة بمكناس عام 1956م. كما تم تعيينه خليفة للباشا الشهير مولاي عبد السلام بن إدريس العلوي عام 1957م، ثم خليفة للباشا سيدي محمد بن العلامة القاضي سيدي محمد العبادي عام 1973م.
أما نقابة الأشراف بزاوية زرهون ومكناسة الزيتون فقد تولاها مباشر بعد وفاة والده النقيب سيدي عبد الكريم بن محمد الذي شغل هذا المنصب في عهد السلطان سيدي محمد بن يوسف ما بين ( 1358- 1377هـ/ 1939- 1957م)، وقد صدر ظهير تعيينه في 26 ذي الحجة عام 1379 لموافق 1 يونيو 1960، وشغل هذا المنصب إلى غية وفاته رحمه الله عام 2008، وتجذر الإشارة إلى أنه شغل منصب النقابة لفترة تربوا عن نصف قرن من عهد الملك محمد الخامس إلى عهد حفيده الملك محمد السادس، وبذلك يكون سيدي محمد بن عبد الكريم في صدارة نقباء زاوية مولاي إدريس في طول المدة الزمنية كنقيب للأشراف، مما يدل على حسن تدبيره لشؤون خطة النقابة التي هي من أجل الخطط وأعظمها.
ولقد لخص لنا النقيب الشريف سيدي محمد بن عبد الكريم الشبيهي خلاصة تجربته كنقيب للأشراف وهو يقدمها لمن سيطلع على كتابه، بقوله: «مقدما لهم عصارة تجربة أربعين سنة من حياتي العملية في ميدان نقابة الأشراف، كان علي فيها أن أحترم الكبير، وآخذ بيد الصغير، وأن أصون صفاء الانتماء إلى النسب الشريف، وأن أحافظ على تقاليد إسلامية وعائلية تراكمت منذ ثلاثة قرون». (الإطلالة الزهية، ص. 315).
ونرى من المفيد هنا أن نورد نص ظهير تعيينه نقيبا على أبناء عمه الشرفاء الأدارسة بزاوية زرهون وبمكناسة الزيتون من طرف جلالة الملك محمد الخامس بعد الطابع المولوي الشريف وبداخله: محمد بن يوسف بن الحسن الله وليه:
«الحمد لله وحده وصلى الله على سينا محمد وعلى آله
يعلم من ظهيرنا الشريف هذا أسماه الله وأعز أمره، أننا بحول الله وقوته، وشامل يمنه ومنته، ولينا ماسكه الفقيه سيدي محمد بن عبد الكريم الشبيهي نقيبا على أبناء عمه الشرفاء الأدارسة، سكان زاوية زرهون ومكناسة الزيتون، دون غيرهم، فنأمره أن يسير في النقابة المذكورة على صون نسبة الشرفاء، وتأديب الشرفاء إذا صدر منهم ما يخل بمروءتهم، أو يخالف أسلافهم في نهجهم وطريقهم، وأن يقتصر على الحكم بينهم دون سواهم في خصوص ما يطرأ عليهم من نزاع، أو ينشب بينهم من خلاف، أما ما عدا ذلك من القضايا الشرعية والمدنية فلا يحكم فيها إلا من يرجع إليه النظر في شأنها، ونعهد إليه أن ينهج فيهم حسن المسالك، ويرفق بالصغير ويحترم الكبير وأن يجري على مقتضى ذلك. فنأمر الواقف عليه من ولاة سامي أمرنا أن يعلمه ويعمل بمقتضاه، ولا يحيد عن قويم منهجه ولا يتعداه، والسلام.
صدر به أمرنا المعتز بالله تعالى في 26 ذي الحجة عام 1379 لموافق 1 يونيو 1960. سجل هذا الظهير بوزارة التاج في تاريخه. محمد المختار السوسي»،. (نص صورة الظهير في الإطلالة الزهية، ص. 151)
وبالإضافة إلى نقابته بزرهون كان للنقيب سيدي محمد بن عبد الكريم على العادة دور شرفي على زاوية سيدي قدور العلمي بمدينة مكناس، وقد كان يحضر بعض الأنشطة التي تقام بها من قبل الفقراء العلميين، حيث تقام حلقات الذكر كل جمعة بعد صلاة العصر، كما كان يحضر للدروس العلمية التي كانت تلقى بهذه الزاوية في تفسير القرآن الكريم وصحيح الإمام البخاري والشمائل المحمدية وتفسير البردة والهمزية للإمام البصيري. (الإطلالة الزهية، ص.61).
وأثناء توليه النقابة كان الشريف سيدي محمد يحضر جميع الأنشطة التي تصاحب الزيارات الرسمية لجلالة الملك محمد الخامس لزاوية زرهون، فقد قام جلالته بالعديد من الزيارات وأمر فيها بمجموعة من الإصلاحات همت تجديد مرافق الزاوية، ومن تلك الزيارات نذكر زيارته للضريح ليلة المولد النبوي عام 1959م، حيث أمر بفتح باب من الضريح، المزارة السفلى سماه باب الفرج. (الإطلالة الزهية، ص. 80).
كما كان الشريف النقيب سيدي محمد في مقدمة المستقبلين لجلالة الملك الحسن الثاني حين زياراته الرسمية التي يقوم بها للضريح الإدريسي، ونذكر منها زيارته عام 1964م، وتشرف سيدي محمد بن عبد الكريم بصفته نقيبا للإشراف على ما يأمر به جلالته من تجديدات وتحسينات وتوسيعات شملت الضريح ومرافقه، ومنها القبة الحسنية التي تسلم مفتاحها خلال تدشينها بأمر ملكي من وفد وزاري كان على رأسه وزير الأوقاف الحاج أحمد بركاش الذي سلم له مفتاح القبة، فقام الشريف بهذه المناسبة الكريمة بإلقاء كلمة الافتتاح أثنى فيها على جلالة الملك في بناء هذه المعلمة الخالدة التي أجمع الشرفاء على تسميتها بالقبة الحسنية، وختم بالدعاء لجلالته، وكان تاريخ الافتتاح هو يوم 27 رمضان 1388هـ/ 18 ديسمبر1968م.
وقد كان النقيب سيدي محمد بن عبد الكريم في مقدمة الشرفاء الذين استقبلوا جلالة الملك محمد السادس، عند زيارته للضريح الإدريسي وذلك يوم الجمعة 23 جمادى الأولى 1420هـ/ 4 شتنبر 1999م حيث ترأس جلالته حفل ترحم على روح والده جلالة الملك الحسن الثاني، وبعد الترحم على المولى إدريس الأكبر، أزاح جلالته الستار عن لوحة بيعة المغاربة لجلالته.
ولعل من آخر الأنشطة الملكية التي حضرها الشريف النقيب سيدي محمد بن عبد الكريم قبل وفاته هو حضوره مع الشرفاء في استقبال جلالة الملك محمد السادس عند زيارته للضريح الإدريسي وأدائه صلاة الجمعة بالمسجد الأعظم بمدينة مولاي إدريس بتاريخ 21 أبريل 2006م.
كانت للشريف النقيب سيدي محمد رغبة كبيرة في تأليف مجموعة من الكتب العلمية والتاريخية، فقد كان متحمسا للكتابة والتأليف، بل نجده يردد غير ما مرة دعواته لأبنائه ولأفراد الأسرة الشبيهية إلى تدوين تاريخ الزاوية الإدريسية وكتابة تراجم علمائها. وفي هذا الإطار ألف كتابه: «الإطلالة الزهية على الأسرة الشبيهية» طبع بمطبعة سندي بمكناس عام 2004.
كما ألف كتاب في الأوراد والأذكار عنونه ب: «الورد النقي للمريد المتقي»، الصادر بمطبعة الكرامة بالرباط، الطبعة الأولى: 1428/ 2007م.
وإلى جانب ذلك ترك المؤلف، رحمه الله، مجموعة من التقاييد والإفادات العلمية والتاريخية ومشاريع مؤلفات كان بدأها قيد حياته ولم يسعفه الوقت في إخراجها، وهي من ربائد خزانته تنتظر من يخرجها من مسوداتها، ويبعثها من مرقدها.
تزوج الشريف النقيب سيدي محمد بالشريفة لالة عتيقة بنت العلامة القاضي سيدي محمد بن إدريس العلوي العبدلاوي عام 1955م، وتم هذا الزواج المبارك بإذن أمير المؤمنين السلطان سيدي محمد بن يوسف في شهر دجنبر من السنة نفسها، وقد أنجب منها أنجاله الكرام: الشريفة الالة ناريمان، والشريف سيدي كريم، والشريف سيدي أمين، والشريف سيدي عثمان.
توفي الشريف النقيب سيدي محمد رحمه الله بزاوية جده مولاي إدريس عند مغرب يوم الخميس 17 ربيع الثاني 1429 موافق 24 أبريل 2008، ودفن بالصحن المعروف بالمواجهة التي تطل نافذتيها على القبة الإدريسية، وعلى قبره رخامة عليها اسمه ولقبه وتاريخ لوفاته، وقد حضر جنازته وفد بأمر من جلالة الملك محمد السادس، نصره الله، يتقدمه الحاجب الملكي إبراهيم فرج والمستشار محمد المعتصم، رحمهما الله، وجمع غفير من رجال الدولة والشرفاء والعلماء وأهل الفضل من جميع أنحاء المغرب، وقد نظم بمناسبة الذكرى الأربعين لوفاته لقاء علمي من طرف جمعية فضاء مكناس للملحون والتنمية الثقافية والاجتماعية. وحضر في الأمسية جم غفير من الشرفاء والعلماء ووجهاء المدينة وحاضر فيها د. عبد الاله لغزاوي ود. أحمد إيشرخان. واهتمت وسائل الإعلام بمكتبته وتم بث برنامج « في مكتبة عالم» من إنتاج التلفزة المغربية، حيث تم استدعاء عدة شخصيات للحديث عن مساره العلمي وعن مكتبته، كما رثاه الشاعر مولاي الحسن البويحياوي بقصيدة عنوانها «جنان الشبيهي».