أرشيف الصحراء

aziz
0

بقلم: عزيز لعويسي
الحديث عن الأرشيف في علاقته بقضية الوحدة الترابية للمملكة، قد يبدو للبعض موضوعا مستهلكا ومتجاوزا، لما كتب وقيل فيه، منذ أن اشتعلت الشرارة الأولى للنزاع المفتعل حول الصحراء الغربية (تمييزا لها عن الصحراء الشرقية)، وقد يبدو للبعض الآخر، موضوعا لازال يحتفظ بكامل “عذريته” الراهنية، من منطلق أن إثبات الحق، لايمكن أن يتحقق إلا عبر إشهار الوثيقة الأرشيفية، التي تقدم الدليل والبرهان، حول مغربية مجال جغرافي صحراوي، ظل عبر التاريخ مكونا من مكونات التراب المغربي، بل وفاعلا أساسيا فيه ومؤثرا في أحداثه الكبرى، بدليل أن الملك الراحل الحسن الثاني طيب الله ثراه، لما أراد – قبل الإعلان عن حدث المسيرة الخضراء – عرض قضية الصحراء على أنظار محكمة العدل الدولية من باب الاستشارة، لم يجد من حل أو بديل، سوى الاستنجاد بأرشيف، كان كافيا لإثبات الحق ورد الباطل والبهتان.

ربط الأرشيف بما كتب أو قيل، أو الادعاء بانتهاء مهامه في قضية تمضي بصمت، في اتجاه الطي النهائي، لن يكون إلا قسوة على الأرشيف وتحقيرا له، ومبررنا في ذلك، أن الأرشيف في مجمله، هو مرآة عاكسة لتاريخ الأمة وذاكرتها الجمعية وتراثها المشترك، تقتضي الحفظ والعناية والاحترام والتقدير والتثمين، وفي ذات الآن، هو ممارسة معبرة عن الحداثة، وما يرتبط بها من تدبير رشيد ومسؤولية ومحاسبة ونزاهة واستقامة وغيرها.

وفي هذا الإطار وتوضيحا للرؤية، ليس القصد من المقال، إثارة الانتباه إلى الصلات الوثيقة والعميقة بين قضية الصحراء والأرشيف، فهذه العلاقة ثابتة ولا تحتاج إلى إثارة أو تحسيس أو حتى تبرير، بل توجيه البوصلة نحو الوجه الآخر لأرشيف الصحراء، والذي قلما تطاله عدسات الإعلام وأقلام الباحثين والمهتمين والمتخصصين في قضية المغرب الأولى، ونخص بالذكر ما راكمته الدولة المغربية من وثائق أرشيفية ما يقارب الخمسة عقود من الزمن، في إطار معركة الدفاع عن وحدة الأرض وسلامة التراب حتى اليوم، فضلا عن الأرشيف الذي تراكم على المستوى الدولي، منذ أن وضعت الأمم المتحدة يدها على الملف.

أرشيف نميز فيه بين مستويات مترابطة ومتناغمة، من قبيل “الوثائق التي شكلت دعمت الملف الذي عرضه المغرب أمام أنظار محكمة العدل الدولية”، و”أرشيف المسيرة الخضراء”، و”أرشيف ما بات يعرف بالمسيرة الكحلة”، وأرشيف النزاع المسلح مع صعاليك تندوف”، و”الأرشيف الذي راكمته الدبلوماسية المغربية في إطار تدبيرها لملف الصحراء”، و”أرشيف الدبلوماسية الموازية” و” الأرشيف الإعلامي الموثق لتاريخ ومسارات الملف”.

إضافة إلى “قرارات الأمم المتحدة حول الصحراء، خاصة “قرارات مجلس الأمن الدولي” و”تقارير مبعوثي الأمين العام للأمم المتحدة بالصحراء”، و”إعلانات وقرارات ورسائل الدول المعترفة بمغربية الصحراء”، و”أرشيف دبلوماسية القنصليات”، و”أرشيف واقعة الكركرات”، و”أرشيف الشراكة المغربية الأوربية في أبعادها المرتبطة بالصحراء”، و”قرارات الجامعة العربية والاتحاد الإفريقي حول ملف الصحراء”، وقبل هذا وذاك، أرشيف الخطب الملكية في عهد الملك الراحل الحسن الثاني طيب الله ثراه، وخلفه ووارث سره، جلالة الملك محمد السادس، حول ملف الوحدة الترابية للمملكة، فضلا عن البلاغات ذات الصلة، الصادرة عن الديوان الملكي، كان آخرها، البلاغ الذي بموجبه تم الإعلان عن خبر الاعتراف التاريخي لإسرائيل بمغربية الصحراء.

أرشيف متعدد المستويات والزوايا، يعبر ليس فقط، عن المجهودات التي بدلها المغرب منذ ما يقارب الخمسة عقود من الزمن، في سبيل الدفاع عن الوحدة الترابية للمملكة، بل وعلى ثقل الفاتورة المادية والمعنوية، التي تحملتها الدولة المغربية في هذا النزاع المفتعل، وما ترتب عن ذلك من تداعيات على المعيش اليومي للمغاربة وعلى القضية التنموية الوطنية، وقيمته تكمن إلى جانب البعد العلمي والتاريخي والتراثي، في رصد مسارات ومتغيرات هذا الملف، ومساءلة مدى نجاح الدبلوماسية المغربية في التدبير الأمثل لهذا النزاع المفتعل، ومدى استثمارها الأمثل لهذا الأرشيف “التراكمي” في التقييم والتقويم والمحاسبة أيضا، من أجل تجويد الأداء الدبلوماسي.

الاعتراف الإسرائيلي الأخير بمغربية الصحراء، بما حمله من قوة وجرأة وتقدم، بقدر ما له أبعادا سياسية ودبلوماسية وقانونية، دافعة نحو الطي النهائي لهذا الملف، بقدر ما له مرجعيات أرشيفية، داعمة لما تمت مراكمته من وثائــق أرشيفية منذ أن عرض المغرب ملف الصحراء الغربية على أنظار محكمة العدل الدولية حتى اليـوم، وهذا الأرشيف النوعي، الذي تتقاسمه عدة جهات، لا يقتضي فقط الحفظ، بل وتجميعه ووضعه تحت سلطة الجهة الوصية على الأرشيف المغربي، إنقاذا له من أي ضياع أو هلاك محتمل، والخارجية المغربية، بمعية الفاعلين في الأرشيف الوطني وخاصة “أرشيف المغرب” و”مديرية الوثائق الملكية”، مدعوين إلى التواصل والتنسيق، لبلورة خطة عمل، تساعد على الحصول على نسخ ورقية ورقمية، من الأرشيفات التي أنتجتها جهات أخـرى في إطار القضية، ومنها على الخصوص الأمم المتحدة، ومدعوين أيضا لإطلاق “نداء وطني”، يستهدف وضع اليد على كل الممارسات الأرشيفية ذات الصلة، المنتجة في إطار الدبلوماسية الموازية، في أفق تكويـن “رصيد قضية الصحراء المغربية”، صونا للذاكرة النضالية الوطنية وتدعيما وإثراء لها، والمضي قدما في اتجاه خلق معرض/متحف وطني دائم يوثق للذاكرة النضالية الوطنية في بعدها الصحراوي.

إذا كانت قضية الصحراء الغربية المغربية تتجه نحو الطي النهائي، بعد “فتح دبلوماسي إسرائيلي مبين”، فإن معركة الأرشيف لابد أن تبدأ من الآن، لأهداف مرتبطة بالذاكرة والتاريخ والهوية والتراث، ومقاصد ذات صلة بدمقرطة المعلومة، عبـر وضع المغاربة قاطبة في صلب معطيات وحقائق، واحدة من المعارك النضالية التي خاضها المغرب دفاعا عن الوحدة الترابية، وفي معترك قضية وطنية، يمكن استثمارها في تمتين الوعي الجمعي الوطني حول مصالح الأمة وقضاياها المصيرية، وتكريس حب الانتماء إلى الوطن، وتعزيز القيم الوطنية.

ونختم بالقول أنه واستحضارا للمكاسب التي جنتها الدبلوماسية المغربية في السنوات الأخيرة، لم تعد علاقة الصحراء بالأرشيف، تقف عند حدود “إثبات الحقوق المشروعة للمغرب على صحرائه”، مادام “المغرب في صحرائه والصحراء في مغربها”، بل تحولت اليوم، إلى قضية ذاكرة وتاريخ وهوية وتراث ووحدة وانتماء ووجــود … قضية حداثة تختبر قدرات المغرب على وضع ملف الوحدة الترابية تحت مجهر المسؤولية والمساءلة والمحاسبة .. هي قبل هذا وذاك، قضية ملهمة، لمغرب يمضي قدما نحو المستقبل بثقة وعزيمة وثبات…

ولايمكن أن ندع الفرصة تمر مرور الكرام، دون الإشارة إلى أن ملف الصحراء سيطوى عاجلا أو آجلا، قياسا لما تعرفه القضية من دينامية دبلوماسية غير مسبوقة، انسجاما مع ما يشهده العالم من متغيرات جيوسياسية إقليمية ودولية، وما انخرط وينخرط فيه المغرب، من شراكات ومشاريع استراتيجية ثنائية ومتعددة الأطراف، ويبقى الرهان الأكبر للدولة، هو تثمين مكتسبات ملف الصحراء، والانخراط الذي لامحيد عنه، في مواصلة مسيرة الإصلاح والبناء والنماء، التي يقودها جلالة الملك محمد السادس بصمت وحكمة وتبصر وسداد، وتملك ما يكفي من الإرادة والعزيمة، لبلوغ مرمى مغرب الحق والقانون والمؤسسات والمساواة والعدالة الاجتماعية، عبر التصدي المسؤول والحازم، لكافة الممارسات “اللامسؤولة” و”اللامواطنة”، التي تؤثر ليس فقط على تماسك الجبهة الداخلية والوحدة الوطنية، بل وتكرس الإحساس باليأس والإحباط وفقدان الثقة في الدولة والمؤسسات، وتعرقل عجلات التنمية، وتمنع المملكة من تملك قدرات القوة الإقليمية الصاعدة، في عالم متغير، لايقبل بالأنانيين والعابثين والمفلسين والمتواكلين.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.