المسيرة الخضراء .. حديث في الذكرى الخمسين

بقلم: عزيز لعويسي
تحل الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء المظفرة، التي وحدت المغاربة بكل انتماءاتهم، على امتداد نصف قرن من الزمن، حول وحدة الأرض وسلامة التراب…نصف قرن من الإجهاد الاقتصادي والدبلوماسي، تصديا للدسائس والمؤامرات الوضيعة من جانب خصوم وأعداد الوطن، وخوضا لمعارك دبلوماسية حامية الوطيس، كان من ثمارها، صحراء في مغربها ومغرب في صحرائه …
وبقدر الإجهاد، بقدر ما ترسخت قضية الصحراء المغربية في الوجدان والذاكرة النضالية الجمعية، وباتت عنوانا عريضا، لملحمة نضالية وطنية، حملت بصمات ملك عبقري، هندس واحدة من أضخم المسيرات التحررية السلمية في التاريخ المعاصر، وشعب مكافح، لم يتردد البتة، في تلبية نــــداء الوطن، في لحظات وسياقات تاريخية، كانت تقتضي الجاهزية والاستعداد والتعبئة الفردية والجماعية، والتجسيد الأمثل للتحدي المغربي في أبهى صوره وأسمى معانيه؛
من غرائب الصدف أن تتزامن الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء، مع القرار 2797/2025 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، الذي رسخ ولأول مرة، سيادة المغرب على صحرائه، وزكى الحقوق المشروعة على الأقاليم الجنوبية للمملكــــة، ومن حسنات القدر الدبلوماسي، أن يوجه الملك محمد الســـادس خطابا إلى الأمة، دقائق معدودات بعد التصويت بالأغلبية على القرار الأممي المذكور، حضرت فيه بشرى النصر والخلاص والافتكاك، بعد مخاض دبلوماسي طال أمده، وحضر معها الذكاء الدبلوماسي والاستراتيجي لملك، أصر مرة أخرى على إشهار “اليد الممدودة” في وجه، من حول العداء “المروكي”، إلى طقوس وعادات يومية وعقيدة ونمط حياة؛
من 6 نونبر 1975، تاريخ انطلاق المسيرة الخضراء نحو الحدود المصطنعة، لافتكاك الصحراء من قيود الاستعمار، إلى 31 أكتوبر 2025، الذي رسم بقرار من الملك محمد السادس، كعيد وطني للوحدة، توثيقا لمسار التحول التاريخي الذي عرفه مسار القضية الوطنية، وتخليدا للتطورات الحاسمة التي حملها القرار الأممي المذكور، مسار دبلوماسي طويل امتد لنحو نصف قرن من الزمن، انتهى على ايقاعات النصر الخالد، بعد كسب معركة السيادة على الصحراء، وتزكية دولية لحقوق المغرب المشروعة على ترابه الجنوبي، وتحطيم عنيف لوهم تقرير المصير وحلم الانفصال؛
ما تحقق من فتح دبلوماسي مبين، هو نتاج دبلوماسية متبصرة وصبورة، ذات عمق استراتيجي وازن، تحت القيادة الرشيدة للملك محمد الســادس، الذي أتقن لعبة التوازنات الدولية، في سياق جيوسياسي دولي موسوم بالقلق والتوتر وانعدام اليقيــــــن، ونسج خيوط صداقات وشراكات استراتيجية وازنة مع القوى الكبرى المتحكمة في صناعة القرار الدولي، كالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا والمملكة المتحدة وروسيا والصين، مبنية على المسؤولية والوضوح والثبات في المواقف والمصالح والمنافع المتبادلة، وفرض على الاتحاد الأوربي أن يخرج من موقع “ازدواجية المواقف” و”الابتزاز” و”الاستفزاز”، إلى الميلان الذي لامحيد عنه، نحو عدالة ومشروعية القضية المغربية الأولى، وأفلح في كسب الإجماع العربي حول سيادة المغرب على كافة ترابه، وفي خلق حالة من التعبئة الدولية حول مبادرة الحكم الذاتي كحل واقعي ذي مصداقية لحل النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية؛
وبين هذا وذاك، إرساء دبلوماسية متفردة تجاه العدو الخالد، مبنية على الانضباط والتعقل والتجاهل، والانخراط في بناء إفريقيا آمنة ومستقرة ومزدهرة ومتعاونة، في ضوء ما أطلقه الملك، من مبادرات رائدة عالميا، مكرسة للتعاون جنوب جنوب، ومعززة لقيم المسؤولية والالتزام والسلام والتضامن والعيش المشترك، من قبيل مشروع أنبوب الغاز الإفريقي الأطلسي، ومبادرة إفريقيا الأطلسية، ومبادرة تمكين بلدان الساحل من منفذ على المحيط الأطلسي، فضلا عن الرهان على التنمية الشاملة، والعناية بالأوراش والبنيات التحتية الكبرى والطاقات النظيفة، وخلق بيئة آمنة، معززة لمكانة المملكة كوجهة استثمارية عالمية، ووضع الصحراء المغربية في صلب نموذج تنموي مبدع، جعل من الفعل التنموي، توجها استراتيجيا، لتعزيز السيادة، وتوثيق صلات ساكنة الصحراء بالوطن وثوابت الأمة الجامعة، وترسيخ الأقدام المغربية في العمق الإفريقي؛
وعليه، فإذا كانت اللحظة، تقتضي الاحتفال بالنصر والفتح الدبلوماسي المبين، والاعتزاز بالوحدة الوطنية التي تجسدت بكل قيمها ومعانيها في محطة 31 أكتوبر، والترحم على أرواح شهداء الوطن عبر التاريخ، فهي تقتضي علاوة على ذلك:
-تثمين ذاكرة المسيرة الخضراء بعد نصف قرن من الزمن، من باب خدمة أغراض البحث العلمي، والاعتزاز بالتاريخ النضالي الوطني، ومن زاوية تحقيق التعبئة والتشبث بالقيم الوطنية وثوابت الأمة الجامعة، مواجهة للرهانات والتحديات الآنية والمستقبلية، وفي هذا الإطار فالدعوة موجهة إلى السلطة الوصية على الأرشيف العمومي، من أجل تكوين رصيد وثائقي خاص بالمسيرة الخضراء؛
-إعادة النظر في المناهج والبرامج الدراسية، بالشكل الذي يثمن الذاكرة النضالية الوطنية، خدمة للتربية على القيم الوطنية، وتعزيزا لافتخار الأجيال المتعاقبة بوطنهم وتاريخهم المجيد وتراثهم العريق، وتثمينا لما صنعه الآباء والأجداد من ملاحم بطولية دفاعا عن الوطن وسلامة أراضيــه، استحضارا لما باتت تعيشه المدرسة الوطنية، من مظاهر السلوكات اللامدنية، ومشاهد تدهور القيم الوطنية والدينية في أوساط شرائح واسعة من الناشئة؛
-تحصين الوطن من كافة أشكال الفساد والانحراف السياسي، وتملك إرادة حقيقية في إشهار سيف “ربط المسؤولية بالمحاسبة”، في وجه المفسدين والأنانيين والوصوليين والانتهازيين، الذين يكرسون بممارساتهم اللامسؤولة، مغرب اللاعدالة اجتماعية ومجالية، ويقوون الإحساس الفردي والجماعي بفقدان الثقة في الدولة والقانون والمؤسسات، ويعرقلون بدون خجل أو حياء، مسار المسيرة التنموية الشاملة، التي يقودها عاهل البلاد، بصمت وعزيمة وإصرار وتبصر؛
-تحصين العملية الانتخابية القادمة، بقطع الطريــق أمام الكائنات الانتخابية، التي تقتل الديمقراطية بشكل علني، وتسهم في إنتاج مؤسسات منتخبة ضعيفة، فاقدة لشروط المصداقية والمسؤولية والالتزام، وهذا المطلب بات اليوم ضرورة قصوى، استحضارا لمضامين خطاب العرش وخطاب افتتاح دورة البرلمان، فيما يتعلق بإطلاق جيل جديد من المشاريع والبرامج التنموية، دافعة في اتجاه كسب رهانات تنمية مجالية حقيقية، تضع المغاربة في صلب التنمية وثمارها، واعتبارا لما ستشهده المملكة من متغيرات مرتبطة بالوحدة الترابية، تقتضي مؤسسات منتخبة قوية، ومنتخبين ومسؤولين حقيقيين، في مستوى الظرفية وتحدياتها ورهاناتها؛
-التشبث بثوابت الأمة الجامعة، وعلى رأسها “الملكية”، كضامنة للوحدة الوطنية والتعبئة المجتمعية والأمن والاستقرار والعيش المشترك، ومحققة للبناء والنماء والازدهار والإشعــاع، وكرابطة موثوق بها، بين تاريخ الأمة المجيد وحاضرها المزدهر ومستقبلها المشرق، وفي هذا الإطار، فقوة المغرب تختزل في ثوابته الجامعة والموحدة، التي صنعت مجد المسيرة الخضراء المظفرة، ونسجت خيوط ملحمة السيادة على الصحراء، ودفعت وتدفع في اتجاه النهوض والرخاء والازدهار…
-الانخراط المسؤول والملتزم، وراء الملك محمد السادس، لرفع التحديات المرتبطة بالحكم الذاتي، وما سيترتب عنه، من متغيرات دبلوماسية وسياسية ودستورية وإدارية وتنموية غير مسبوقة؛
-الفهم العميق، أن مغرب ما بعد 31 أكتوبر 2025، هو مغرب الوحدة ولم الشمل والتعبئة الشاملة، ترسيخا للسيادة الترابية للمملكة، ورفعا للتحديات التنموية القائمة .. مغرب لا مكان فيه لصانعي الفساد ومنتجي القدارة السياسية، ومعرقلي القطــار التنموي، مغرب العدالة المجالية والمساواة والإنصاف وتكافؤ الفرص.. مغرب جديد لا فرق فيه بين صحراوي وريفي وجبلي وأمازيغي وعروبي …، إلا بالمسؤولية والالتزام ونكران الذات، والامتثال للقانون، الذي يجب أن يكون كالموت “لا يستثني أحدا” …