عيد العرش تجديد للبيعة الشرعية، وتمتين للرابطة الشرعية والتاريخية للوحدة الوطنية المغربية
فاطمة سهلي طنجة
تشكل المظاهر والطقوس الاحتفالية لحفل الولاء والبيعة نوعا من السلطة ساهم ولازال يساهم على تثبيت شرعية الخلافة الإسلامية في المغرب منذ أزيد من اثني عشر قرنا، كما يجسد قوة النظام واستمراريته التي يستمدها من الإجماع الشعبي عبر أبرز تجلياته في طقوس البيعة
تعد البيعة الشرعية المنصوصُ عليها في القرآن الكريم والسنة النبوية أقدسَ العهود المبرمة بين الإمام والرعية؛ فهي تمثل بمعانيها الراقية، ودلالاتها السامية أهم الركائز المؤسسة للهوية الدينية والوطنية للأمة المغربية
وحفظا لحقوق الرعية، والسعي في مصالحها الدينية والدنيوية، ظلت إمارة المؤمنين تعم المغاربة بعنايتها الكاملة، ضامنة ممارسة شعائرهم الدينية، والتعبيرَ عن مشاعرهم الإيمانية، وترسيخ وحدتهم العقدية والمذهبية والسلوكية، فاستطاعت بسياستها الرشيدة صيانة أمة آمنة مطمئنة، وخلق شروط تنمية شاملة
كما لا يخفى على من له أدنى وعي بالمنظومة الدينية المغربية أن إمارة المؤمنين كانت وما تزال العامل الحاسم في ترسيخ أركان هذه المنظومة، باعتبارها العماد الذي تنبني عليه الثوابت الدينية المغربية، والحصن الذي يضمن استمرار المحافظة عليها، وعلى الاستقرار الفكري والروحي الذي تؤدي إليه
وقد قامت إمارة المؤمنين في بلدنا الأمين على الأسس الشرعية الصحيحة منذ بيعة مولانا إدريس بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن سيدنا علي كرم الله وجهه، ومولاتنا فاطمة الزهراء بنت مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم. والتي استمرت في شخص الدولة العلوية الشريفة التي أخذت على عاتقها القيام بواجب حفظ الدين، وإرشاد الناس للسير على هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى المحجة البيضاء التي تركنا عليها، إذ هي النجاة والفوز والفلاح
إن المملكة المغربية الشريفة لا خوف عليها أبدا، فلقد خصها الله بحفظها وعنايتها، وأعزها بنصره وتمكينه وقيض لها ملكا شريفا من الدوحة النبوية المباركة، يسير على هدي جده المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتظهر على يديه البركات والمكرمات، في تسيير شؤون هذه البلاد، في ظل إمارة المؤمنين، التي تعتبر من أجل الثوابت وأعظمها مكانة ومنزلة، في أنها جمعت بين أمور الدين والدنيا، في توازن ينهل من مبادئ الإسلام المعتدل الذي تتميز به بلادنا برعاية أمير المؤمنين حفظه الله، وبقيامها على البيعة الشرعية التي تأسست عليها خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم
إن الحديث عن عيد العرش المجيد في المملكة المغربية الشريفة، هو حديث عن مناسبة عظيمة الشأن جليلة القدر، لها معنى عميق في قلوب المغاربة بحمولاتها الدينية والتاريخية والسياسية. وهي ذكرى دأب المغاربة على إحيائها وتمجيدها والاحتفال بها، باعتبارها سببا من أسباب ربط الأمة بماضيها وتذكيرها بأمجادها، وكذلك باعتبارها محطة سنوية خالدة لأخذ العبر، ونبراسا للاقتداء والسير بخطى حثيثة من أجل تقدم وازدهار هذا الوطن، الذي يضرب في أعماق التاريخ بحضارته العريقة وجذوره التاريخية الشريفة وماضيه التليد، كما يتميز بنظام حكم يقوم على البيعة الشرعية، بالموازاة مع ترسيخ مبدأ التشاور وتقاسم المهام وإسهام جميع الفعاليات والقوى الحية في تسيير شؤون البلاد، تحت القيادة السامية لجلالة الملك حفظه الله، انطلاقا من كون المغرب دولة مؤسسات، بالإضافة إلى تبني جلالته لمشروع الدولة الحديثة، وضمان حماية الأمن الروحي للمغاربة، والسهر على تنزيل وممارسة أحكام الشريعة الإسلامية، عن طريق تكريس قيم ومبادئ الإسلام المعتدل في ظل إمارة المؤمنين
ان الاحتفال بذكرى عيد العرش المجيد كل سنة مناسبة سعيدة وسنة حميدة عند المغاربة، يجددون من خلالها بيعتهم لأمير المؤمنين في حفل الولاء الذي يقام كل سنة تخليدا للذكرى الغالية، بالإضافة إلى الاحتفالات الكبيرة التي يحييها المغاربة سواء داخل الوطن أو خارجه من خلال سفارات المملكة وقنصلياتها وهيئاتها وتمثيلياتها الدبلوماسية، وذلك حفاظا على مقومات الوحدة الوطنية، والرابطة الشرعية بين الراعي والرعية
وتبقى هذه الاحتفالات رسمية تؤدي الوظيفة التي استحدثت من أجلها على أحسن وجه، والمتمثلة في تأجيج الروح الوطنية، والتذكير بمقتضيات البيعة التي تعتبر جوهر الاحتفال بعيد العرش
ومن النعم التي حبا الله بها بلادنا وجعلها مفخرة بين بلدان العالم أجمع هي نعمة استقرار الحكم، وسلاسة انتقال السلطة، ويمكن إرجاع هذا الأمر أساسا إلى شكل نظام الحكم في المغرب الذي يقوم على البيعة وفق الأحكام الشرعية
إن ذكرى عيد العرش المجيد حافلة بالدلالات والحمولة التاريخية الوازنة، وهي تأتي لتعبر بجلاء ويقين عن متانة وعمق أواصر المحبة بين العرش والشعب، ولتعلن للعالم خصوصية هذه البلاد من خلال الوشيجة التي تجمع بين أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله وبين الشعب المغربي قاطبة، والتي يصعب بل يستحيل انفصامها، لأنها مؤسسة على العهد وعلى رابطة شرعية، ترجع أصولها إلى القرآن الكريم، وتستمد قوتها ورمزيتها الخالدة من النسب الشريف لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما يعطي لبلادنا خصوصية
نظام الحكم فيها، الذي يقوم في هذا المحور على البيعة الشرعية في ظل إمارة المؤمنين، بالإضافة إلى أن ملكنا الهمام يعتبر رئيسا للدولة المغربية، وبهذه الصفة يتمتع جلالة الملك- نصره الله- باختصاصات دستورية كبرى تعتبر سببا رئيسيا للاستقرار والتعايش الذي ينعم به المغرب، وتحافظ كذلك على حسن تسيير شؤون الدولة تحت القيادة الحكيمة لجلالة الملك حفظه الله،
كما ان الاحتفال بعيد العرش المجيد يشكل كذلك مناسبة لاستحضار- باعتزاز وفخر- الخطوات المباركة لجلالة الملك نصره الله في قيادة الدولة الحديثة، والإنجازات الجبارة التي تحققت في كل الميادين، على امتداد اثنتي وعشرين سنة من الحكم الرشيد لملكنا الهمام، والقرارات الكبرى والسيادية التي اتخذتها بلادنا تحت القيادة الحكيمة لجلالته
وقد شهد العالم بحكمة جلالة الملك حفظه الله في معالجته لأهم القضايا الوطنية الكبرى بجرأة وتبصر، وإسهامه الوازن في حل كل الإشكالات والقضايا الدولية، وجعل المغرب بلدا مستقرا
منفتحا يدعو إلى السلم والتعايش والسلام
كما يعمل جلالته على تمتين أواصر الأخوة بين البلدان الشقيقة والصديقة، وإشاعة قيم التعاون ومد المساعدات للدول والشعوب في الظروف التي تستدعي ذلك انطلاقا من واجب الأخوة والصداقة ومبدأ حسن الجوار وكل القيم النبيلة، التي يتحلى بها جلالة الملك نصره الله مجتمعة في أخلاقه ومكارمه والتي تنهل من نسبه الشريف وأصوله الزكية الممتدة إلى الدوحة النبوية الشريفة، إلى نبينا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
وقد عمل جلالة الملك أعزه الله منذ اعتلائه عرش أسلافه الميامين على حفظ ثوابت الأمة المغربية، وبلورة سياسة تنموية رائدة، ذات بعد استشرافي على الصعيدين الوطني والقاري، من أجل تحقيق الاستقرار السياسي وضمان اللحمة الوطنية والحفاظ على الوحدة الترابية للمملكة المغربية
تعتبر وظيفة التحكيم الملكي ممارسة سياسية وقاعدة دستورية تعزز للنظام السياسي وحدته السياسية والجغرافية، وتسهم في تجاوز مجموعة من المشاكل والأزمات السياسية والمجتمعية الحرجة
وقد أصبحت وظيفة التحكيم الملكي تكتسي صبغة دستورية
صريحة في دستور2011
فالملك باعتباره رئيسا للدولة وممثلها القانوني الأسمى، هو الحكم الأسمى بين مؤسساتها. وبموجب هذه الخاصية يحمل على عاتقه مسؤولية السهر على احترام المقتضيات الدستورية وضمان حسن سير المؤسسات الدستورية، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات
وتقترن وظيفة التحكيم الملكي من الناحية التاريخية بواقع التعددية الذي يثير هاجس الحفاظ على العيش في ظل الاستقرار الاجتماعي والسياسي، والمحافظة على رصيد الولاء والتعايش السلمي، وهو اختصاص ذو طبيعة رمزية وسيادية وتحكيمية يتم من خلال السلطات المخولة لجلالة الملك نصره الله صراحة بنص الدستور
إن التحكيم الملكي ينبني على فلسفة ملكية حكيمة تحقق التوازن والاستقرار، وبعد نظر وسداد رأي يضمن سير الأمور في الاتجاه الاستراتيجي الصحيح، والذي يراهن على الفعالية الإيجابية في الجانب السياسي والدستوري، من أجل التصدي لكل الاختلافات التي تعيق السير العادي لشؤون الدولة، واحتواء كل الفرقاء السياسيين بما يضمن النهوض بدور الموحد المرشد والناصح الأمين والحكم الذي يعلو فوق كل انتماء، كما جاء في خطاب جلالة الملك نصره الله
إن التحكيم الملكي يجعل من جلالة الملك باعتباره رئيسا للدولة حكما إيجابيا وفاعلا يتمتع بالسلطة الكافية، التي تمكنه من إرساء نظام سياسي قوي وتجاوز الأزمات الحرجة المحتملة، كما يتميز بخاصية الحياد التي ترسخ سمو جلالة الملك نصره الله فوق مختلف التدافعات السياسية، بحيث يعد جلالته أسمى معبر عن المصلحة العامة للوطن
فالمؤسسة الملكية وعلى مر التاريخ مارست أدوارا تحكيمية حاسمة في كثير من القضايا التي أثير فيها الخلاف، حيث حرص جلالة الملك محمد السادس حفظه الله منذ توليه عرش أسلافه الميامين، على ممارسة دور الحكم وضبط التوازنات بتجرد وإيجابية، وهذا الدور كرسه مضمون الفصل 42 الذي نص على أن الملك باعتباره رئيسا للدولة يمثل الحكم الأسمى بين مؤسساتها. وأستحضر هنا النقاش الكبير والجدل الواسع الذي أثير حول مدونة الأحوال الشخصية بصيغتها القديمة، بعد مخاض عسير ما كان لينتهي لولا التدخل الملكي، الذي أبان عن حكمة جلالة الملك واستيعابه للمفاهيم العميقة للأمور، وقد قبل الشعب المغربي بالتحكيم الملكي الذي كان من ثمراته: مدونة الأسرة بصيغتها الحالية، وقال جلالة الملك في خطابه السامي: إن الإصلاحات التي ذكرنا أهمها لا ينبغي أن ينظر إليها على أنها انتصار لفئة على أخرى، بل هي مكاسب للمغاربة أجمعين
والمتأمل في كلام صاحب الجلالة حفظه الله يمكنه أن يلحظ سهره الدائم على إيجاد الحلول والتعاطي مع القضايا بنفس الأب الموجه العطوف، الذي لا يكتفي بحل الإشكالات وإنما يراعي كذلك تذويب الخلاف وإشاعة التعاون والمحبة بين كل المواطنين على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم السياسية، وعدم ترك الفرصة لكل ما من شأنه أن يوقع الشحناء والجدال بين جميع مكونات المجتمع المغربي باعتباره أبا للمغاربة جميعا
ومن هنا يتضح الدور الهام الذي يضطلع به جلالة الملك نصره الله من خلال وظيفة التحكيم خصوصا إذا تعلق الأمر بالقضايا الوطنية الكبرى، التي تثير نقاشات وتفضي إلى تعدد الآراء واختلاف الأفكار، والقراءات الدقيقة في موضوع معين يكتسي أهمية عند عموم الشعب المغربي، كمسألة مدونة الأسرة التي ذكرت آنفا، كما أن هناك حالات ذكرت على سبيل الحصر تستدعي التحكيم من قبل جلالة الملك نصره الله: كالحالة التي تتجاوز فيها المؤسسات الدستورية مقتضيات الدستور، أو وجود تهديد للاختيار الديمقراطي، أو الإخلال بالتعهدات الدولية، أو الحالة التي يصبح فيها سير المؤسسات الدستورية متعثرا
إن رمزية التحكيم الملكي تظهر جليا في كل المبادرات التي يقوم بها جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، بهدف الحفاظ على الاستقرار والطمأنينة للشعب المغربي، وهذه النعمة تستوجب الشكر الكثير لله تعالى؛ لأنها جعلت من المملكة المغربية بلدا مستقرا وآمنا تضرب به الأمثال في الانفتاح والتعايش وقدرته على استيعاب مختلف مكوناته السياسية والاجتماعية
إن جلالة الملك محمدا السادس حفظه الله وبفضل مبادراته الحكيمة المتسمة بالدقة والاستباقية التي رفعت من مكانة بلادنا وبوأتها مرتبة مشرفة في الساحة الدولية استطاع إقامة علاقات مع المجتمع الدولي على أساس التعاون المشترك والاحترام المتبادل، ورفع شعار التنمية وتحسين المستوى المعيشي للمواطن المغربي
ومن تجليات سياساته الحكيمة تدبيره السديد لجائحة كورونا الذي جنب المغرب تداعياتها التي أزهقت ملايين الأرواح في مختلف دول العالم، بفعل الإجراءات التي اتخذت بناء على تعليماته السامية، والتي مكنت المغرب من الحصول مبكرا على كل أنواع لقاح الجائحة، بفضل المكانة الكبيرة التي يحظى بها جلالة الملك في الأوساط الدولية
إن كل ما تقدم ذكره عن جهود جلالة الملك حفظه الله سواء باعتباره أميرا للمؤمنين من حيث سعيه إلى حماية الأمن الروحي للمغاربة، وترسيخ أواصر المحبة والولاء بين العرش والشعب، أو باعتباره رئيسا للدولة، يعمل على إرساء قواعد الدولة الحديثة، يعتبر غيضا من فيض، وإلا فإنجازات جلالته كثيرة ومتعددة، وكلها تنصب حول مصلحة المواطن المغربي وتجعله في صلب اهتماماتها، بل تجعله أولوية كبرى
إن ذكرى عيد العرش المجيد مع ما لها من رمزية في قلوب المغاربة جميعا تعتبر مناسبة لتجديد العهد بين العرش والشعب، واستحضار المنجزات التي حققاها معا، وتجديد الصلة والبيعة وتقديم الولاء لأمير المؤمنين جلالة الملك سيدي محمد السادس نصره الله وأيده
يمكن الاستنتاج أن حفل الولاء والبيعة بمظهره الطقوسي الاحتفالي، وباعتباره عقدًا على الطاعة، ورباطًا مقدسًا بين الراعي والرعية في المغرب، يشكل أحد الثوابت الرئيسة لشرعية الملكية المغربية، باعتبارها إمارة للمؤمنين، والساهرة على حماية الوطنِ والدين،آلية للاستقرار السياسي، وضمانًا للاستمرارية، خصوصًا وأن طقوسه التقليدية والدقيقة توحي على هبة خاصة للسلطان، وسموه، وتشعر المبايعين بأنهم دخلوا فعليًا تحت حماية إمارة المؤمنين